غريبي مراد عبد الملك | قاعدة البیانات الاستبصار

آخر الأخبار

خانه » المستبصرین » نبذة عن حياةالمستبصرين » غريبي مراد عبد الملك

غريبي مراد عبد الملك

الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ،

(سني / الجزائر)

ولد في الجزائر، ونشأ في أسرة سنّية المذهب، فلمّا ترعرع توجّه نحو البحث وطلب العلم حتّى توصّل إلى العقيدة الحقّة التي أملتها عليه الأدلّة والبراهين.

يقيم حالياً في “أم النبلاء” بالجزائر، له اتّصال دائم مع مركز الأبحاث العقائدية عبر الانترنيت، ويبعث إليها دائماً مقالات لتضاف في موقع المركز قسم مساهمات المستبصرين، وقد اخترنا ثلاث مقالات نوردها فيما يلي:

المقال الأوّل: في ظلال المولد العلوي:

تمرّ هذه الأيّام ذكرى مولد إمام المتّقين، أسد الله الغالب، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وصي النبيّ وأخوه ونفسه، وزوج الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وأبو سيّدي شباب أهل الجنّة(عليهما السلام)، هازم قريش يوم بدر، وقاصم شعث الأحزاب، وحامي وفادي رسول الله ليلة الهجرة ويوم أحد، وقاهر اليهود يوم خيبر والقاسطين يوم الجمل وصفين والنهروان، إنّه علي وليّ الله، الذي عاش حياته كما عاشها النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل الله ودين الله، وحمل عباد الله على الحقّ والعدل والإسلام دين الله، فاستطاع أن يملأ الدنيا تقى وورعاً وعلماً


الصفحة 157

وإيماناً، كما ملأها جهاداً في سبيل الله، ولأجل وعي المسلمين للمواقف والمواقع والمسؤوليات العظيمة، وفي سبيل مواجهة الظلم كلّه “الكفر، الشرك، الضلال، والاستكبار” الذي يعمل لأجل انحراف المسلم عن خط الرسالة المحمّدية الأصيلة.

هذه الأيّام هي أيّام الإكبار والإجلال والسمو والصفاء الروحي والتعمّق العقلي في سيرة الطهر الإمامي والشعور الإنساني باللطف الإلهي.

يوم علي(عليه السلام) هو يوم التطلّع إلى الإسلام الأصيل الذي يملاً عقل الإنسان كلّه وحياته كلّها بما يرضي الله ; لأنّ حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) ليس فيها شيء لغير الله، وحتّى نفسه فقد كانت “نفسه” الزكية الطاهرة بكلّها لله تعالى، وعقله للحق، وقلبه للخير، وحياته اتّسعت لتحتضن الإنسان كلّه . . .

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(1)، هذه الآية الكريمة وغيرها من آيات الذكر الحكيم كآية الولاية(2)، تذكر الروايات عن طريق السنّة والشيعة أنّها نزلت بحقّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). وأغلب الآيات النازلة بحقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) تتحدّث عن علاقته(عليه السلام) بالله تبارك وتعالى،وبعبارة أدق وأهدى تحدّثت هذه الآية وأخواتها عن سرّ الولاية وجوهرها وأبعادها من خلال الإيحاء للتجربة الإيمانية وآفاقها الرسالية العظيمة في شخصية الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والتي رسمت الحقيقة الإسلاميّة والعظمة المحمّدية والتقوى الإسلاميّة في كلّ جزئيات سيرة أمير المؤمنين وسيّد الوصيين(عليه السلام).

ومن خلال هذا الحديث القرآني الخاص عن شخصية الإمام عليّ بن أبي

____________

1- البقرة (2) : 207.

2- المائدة (5) : 55 .


الصفحة 158

طالب(عليه السلام)، نستوحي تلك الحقائق والمنبّهات الحيثية لموقع هذه الشخصية العظيمة في منظومة الحركة الإسلاميّة عبر الزمن كلّه.

“أنا مدينة العلم وعلي بابها”(1)، “من كنت مولاه فهذا علي مولاه . . .”(2)، “علي مع الحقّ والحقّ مع علي . . .”(3)، “برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه”(4)، وما هنالك ممّا تعجز عن حصره وذكره الأسفار، وتكلّ عن شرحه العقول والألسن، وتنكسر الأعداء لو حاولت طمسه . . .

إنّه وليد الكعبة، وأخ سيّد الخلق كلّهم، وزوج أمّ أبيها، وأبو ائمّة الهدى عليهم الصلاة والسلام أجمعين . . .

علي بكلّه: الإيمان واليقين والإخلاص والسلام والإنسانية . . . ، والتي تختزن كلّها حقائق الحقّ، وإنسان الجنّة، وولي الله، وتجلّي حقائق النبوّة في الناس.

كان علي(عليه السلام) المؤمن المسؤول عن الوحدة والحقّ والعدل والسلم والرسالة كلّها، وهذا ما نلمسه في كلماته الرحبة التي قالها(عليه السلام): “فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإنّ كانت تبوء بآثامها”(5).

“لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصّة”(6).

“فخشيت إنّ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3: 126.

2- مسند أحمد 4: 370.

3- تاريخ بغداد 14: 322، رقم 7643.

4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 13: 161.

5- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 1: 104، رقم 55 .

6- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 1: 124، رقم 74.


الصفحة 159

المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما ينقشّع السحاب”(1).

لنحدق جيّداً ليقين علي وحبّ علي وإسلام علي، حيث يقول(عليه السلام): “لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً”(2).

وبهذا يبقى بجنب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بحار العرفان الإلهي والمعرفة القدسية والقرب الإلهي.

ونكتشف أيضاً من قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): “لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله”(3)، ماذا يحبّ علي(عليه السلام).

ولذلك قال علي(عليه السلام) للناس: “ليس أمري وأمركم واحداً إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم”(4).

فشخص علي(عليه السلام) هو أعظم نموذج للعبودية الخالصة لله بأسمى معانيها، لا يتقدّمه أحد في ذلك إلاّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا أشغال علي وعلاقاته وحساباته وحركاته كلّها مرتبطة بالله تعالى وبرسوله القدوة، والخلق العظيم الذي استمدّ منه علي(عليه السلام) العلم، وتربّع على عرش القرب من حبيب الله، وبالتالي اكتسابه وسام الحبّ الإلهي عن جدارة واستحقاق، فكان من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى دون النبوّة ; لأنّ علي عاش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كلّه منذ أن كان طفلاً إلى أن كبر، ولقد احتضنه المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطاه عقله وروحانيته وقلبه . . .

“يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً”(5).

____________

1- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 3: 119، 62.

2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 11: 202.

3- صحيح البخاري 4: 20، باب دعاء النبيّ إلى الإسلام.

4- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 2: 19، رقم 136.

5- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 2: 157، رقم 192.


الصفحة 160

إنّنا أيّها الإخوة، لا يمكننا معرفة النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كلّه دون أن نعرف علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، لذلك لا يمكن أن يغيب عنّا علي(عليه السلام) حتّى نبقى في رحاب الإسلام المحمّدي . . .

وتجربتي الشخصية من قبل ركوب سفينة النجاة التي أعتقد أنّني ركبتها بالفطرة لكنني نزلت منها عند تقليدي الأعمى لوسطي الاجتماعي، كنت أشعر أنّ علي(عليه السلام) حاضراً في حياتي كلّها، أميل لعلي(عليه السلام) أكثر من أيّ شخصية أُخرى من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، رغم تسنني الضاغط آنذاك على قيمة علي العظيمة في وجداني.

كانت تجربة مريرة وعظيمة في آن واحد ; لأنّها تختزن الميلاد الجديد للإسلام كلّه بداخلي، وكانت سرّاً أصلح ما فسد منّي، فعلي(عليه السلام) نور من نور المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) يضيء بقوّة ولطف إلهيين، قد يحمله كلّ مسلم، لكن كلّ حسب وعيه واهتمامه بمصيره الأخروي . . . لكنني الحمد لله ذات يوم قلت: لبيك يا علي، بعد لبيك يا محمّد التي كنت أظلمها من حيث جهلي بكنهها، حينها أدركت أنّ حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وأهل البيت(عليهم السلام) هي حياة أعظم وأكبر وأتقى وأنقى وأطهر من حياة الكثير ممن رّوج لهم التاريخ الإسلامي.

والتقيت بإمام المتّقين(عليه السلام) من خلال سيرته العطرة التي استقرّت بداخلي لتعينني على أن يكون إيماني مستقرّاً لا مستودعاً، ونهلت من كلماته العرفانية العقلانية والواقعية الهادفة التي لا يحدّها زمان ولا مكان، فكان حديثي عن علي(عليه السلام) مع الموالين والعامة وغير المسلمين حديثاً طبيعياً ليس فيه من التكلّف شيء ; لأنّ حديث علي عذب فرات، وحديث ورع واجتهاد، وعفّة وسداد، يفضي بسامعه لولوج رحاب علي(عليه السلام) برحابة ولطافة، فكان والحقّ يقال علي من شيّعني، كما كتبتها في مقدّمة مذكّراتي “إرادة التشيّع”.

أيّها الأحبّة، من أراد معرفة علي(عليه السلام) فليقرأ أدعيته التي كان يدعو الله بها،


الصفحة 161

ليعرف لماذا علي(عليه السلام) وليس غيره ; لأنّه يقول: “اللّهم إنّك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهم اجعلنا خيراً ممّا يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون”(1).

ويقول أيضاً: “اللّهم إنّي أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، وتقبح فيما أبطن لك سريرتي، محافظاً على رئاء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطّلع عليه منّي، فأبدي للناس حسن ظاهري وأفضي إليك بسوء عملي تقرّباً إلى عبادك، وتباعداً عن مرضاتك”(2).

إنّه علي الإمام والوالي والعالم والوصي والوزير، يتحدّث عن الإنسان التائه ليرشد هذا الإنسان إلى الهدى وترك الضلال والهوى . . . ، ولابدّ أن يسترشد كلّ منّا بعلي الإمام، وعلي الولي، وعلي المعصوم، لينطلق في مدارج الكمال والطهر والصفاء والأمن والحقّ.

علي هو نور من أنوار الله للمستوحشين في الظلام.

علي هو عالم علّمه الله علم رسوله من خلال نبيه فلم يعلمه أحد غير الله.

“علّمني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب كلّ باب يفتح ألف باب”(3).

وكما قال الفراهيدي: “احتياج الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكلّ دليل علي أنّه إمام الكلّ”(4).

“إنّ هاهنا لعلماً جمّاً لو أصبت له حملة”(5).

ويبقى علي(عليه السلام) بسموّه كلّه، ويسمو معه كلّ من والاه بحقّ وصدق وعدل، وهو القائل سلام الله عليه:

____________

1- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 4: 22، رقم 100.

2- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 67، رقم 276.

3- كنز العمال 13: 50، حديث36368.

4- تنقيح المقال، المامقاني 26: 12.

5- نهج البلاغة 4: 36، رقم147.


الصفحة 162

“لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صبّت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النبيّ الأمي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق”(1).

أيّها الأحبّة، علي مصباح الهدى والإيمان، فبقدر حبّه ـ الحبّ الرسالي لا العاطفي فقط ـ يرتقي المسلم في مدارج الصالحين والعارفين والمؤمنين الصادقين المتّقين.

ويبقى رحاب علي(عليه السلام) يعطينا الدروس تلو الدروس مهما سعى الإرهاب لإبعاد زائريه بتفجيراته وإجرامه وحقده ; لأنّه في رحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) نحيا الحياة الكريمة، ونموت الموت الشاهدة على الحقّ، ونلقى الله بقلب سليم.

وشيعة علي لن يموتوا، ولن يمح ذكر علي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

أحبّتي علي(عليه السلام) علّمنا كيف نصمد ونثبت ونبتهل ونجاهد ونحيا ونعتزّ بالإسلام، علي يريدنا لله وللرسول وللإسلام الأصيل.

ومع علي نعرف قدر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم.

وقدر القرآن، وقدر العبودية لله.

أمّا أنتم أيّها المجرمون الحاقدون الظالمون المستكبرون القاتلون النفس التي حرّم الله حتّى جرحها.

علي(عليه السلام) وصي النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبأ العظيم.

علي(عليه السلام) كما قال الشاعر المسيحي بولس سلامة:

 

يا سماء اشهدي، ويا أرض قري واخشعي إنّني ذكرت علياً

 

____________

1- نهج البلاغة شرح محمّد عبده 4: 13، رقم45.


الصفحة 163

ومن هذا كلّه نعرف أنّ التشيّع أعظم وأشد وأنقى وأصفى وأطهر من كلّ دعوى من دعاوى المغضوب عليهم والضالين ; لأنّه ليس كلمة، وليس عاطفة، وليس مجرد خلجات يمكن ترهيبها.

سوف نبقى مع علي(عليه السلام) ونزوره ; لأنّنا نحبّه ونوإليه حقّاً حقّاً.

هكذا نبقى نحتفل ونفرح ونبتهج بذكرى أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وهكذا يكون الحقّ والصدق والعدل جوهر حياتنا حتّى يبقى التشيّع إمامياً، والإسلام محمّدياً.

فلنستحضر علياً(عليه السلام) في كلّ تفاصيل حياتنا، استحضاراً ولائياً عميقاً دقيقاً يبعد الشياطين ويخزيهم عن كلّ بلاد المسلمين.

إنّه يوم علي المسلم، علي الرسالي، علي الكرم والشجاعة والفداء والتواضع والمعجزة والولاية والشهادة، علي القرآن الناطق، علي أسد الله الغالب، علي الصدّيق الأكبر، علي الفاروق حقّاً، علي وزير النبيّ ووصيّه وصهره ونفسه، علي ولي الله.

أحبّتي المؤمنون، ولاية علي تقرّبنا إلى سعادة المصير، فلنحيا محمّد يون علويون حسينيون إماميون مهدويون.

ونقول ختاماً: السلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم نراك عند خروج أرواحنا لبارئها، ويوم نلقاك مع أخيك المصطفى صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم الصلاة والسلام فتشفعوا لنا بإذن الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين.

المقال الثاني: في مولد الإمام الشهيد(عليه السلام): فرح من رحم الحزن:

نبقى مع الزمن الإسلامي ككل في معانية المتصلة بالإنسان المسلم في حركته، في داخل ذاته، وفي انطلاقاته داخل مجتمعه، وفي كلّ تطلّعاته في الحياة


الصفحة 164

كلّها، ذلك الزمن الإسلامي الذي يوحي بالطهر والصفاء والنقاء كمصاديق للأمانة وللحقّ وللإخلاص، ليس الزمن شهوراً وأسابيع وأيام وساعات ودقائق وثوان نتجمّد ونتخلّف معها ونخلد إليها بحيث نشعر على أعتاب الزمن أنّنا نعيش التقليد من أعمارنا، ولكن الزمن الإسلامي هو ذلك النور والاشراقة والضياء والانفتاح والتقدّم والرحابة والأصالة الإسلاميّة بأرقى وأسمى تعابيرها القدسية والعرفانية.

نحن هذه الأيام ضيف لمولد الشهيد، الذي اسمه قد يوحي بالحزن، لكن وأنت تقترب من ذكراه تشعر بأنّ حياتك تتروّح بروح الفرح الكبير، حتّى وأنت تعيش في أعماق الحزن، لأنّ خط الحزن عليه هو خط القضية، وخط الرسالة التي عند وعيك إيّاها تتحّول المأساة إلى فرح مميّز وكبير ; لأن روح الحسين(عليه السلام) تنفتح على روحك لتعلّمك الإسلام الأصيل في حركة الأمّة وامتداد الرسالة ومحض الإخلاص والعبودية لله تبارك وتعالى، فيصبح الحزن لديك يختزن الفرح الحقيقي والتطلّع الصادق إلى المعالي الروحية والرضوان، حيث الله يتقّبل ابتهالاتك، ويجيب روحانيتك بلطفه الذي يتجلّى في رحيميته بك، ومنها تقريبك إليه عزّ وجلّ من خلال الأخلاق الفاضلة والآلاء العظيمة والمواقف الجليلة، فتبصر الخلق والنعم والمسؤولية والمصير ببصيرة نافذة واعية عارفة بكنه الحياة كلّها، وتنفتح على الحقيقة كلّها بعبادة الشكر لله، والتحرر من أغلال النفس والشيطان والدنيا وغرورها، وهكذا نحلّ في رحاب مولد الإمام الحسين زين السماوات لنتزيّن بعقله وروحه ورسالته وحركته وروحانيته وانفتاحه على الله وعباد الله من خلال لطف الله بنا أن عرّفنا على آله وورثة رسوله(1).

في اليوم الثالث من شهر شعبان الكريم نطل على كون فسيح ورحيب يمتدّ بنا إلى رسول الله وأهل بيته الأطهار عليهم الصلاة والسلام أجمعين في تاريخ

____________

1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب 3: 211، باب إمامة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).


الصفحة 165

الإسلام، ويعرج بنا إلى بداية الخلق “خلق آدم(عليه السلام)” ليختزل الإسلام كلّه، وينفذ بنا إلى كلمات طيّبة سقاها الدم الزكي النقي الطاهر، فجعلها تخلق في كلّ جيل إسلاماً قويّاً يواجه الاستكبار كلّه عبر الزمن الإسلامي كلّه.

في ذكرى مولد الشهيد(عليه السلام) يشرق الزمن بشروق السماوات التي تتزّين بالحسين(عليه السلام)، لذلك هذا اليوم ليس يوماً عادياً نقلّد فيه سابقه، إنّه يوم يولّد فينا معنى الحرية والعزّة والكرامة ويمّثل كلّ امتدادات الحرية في العقل والقلب والحياة ; لأنّك قبل الدنو من شخصية الحسين(عليه السلام) عليك أن تفهم الطيف الرسالي كلّه، وقضيته التي انطلقت من معين النبوّة وبُعدها من امتداد الإمامة، حيث عمق الحسين(عليه السلام) هو عقل يحمل علم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلم علي(عليه السلام)، وعلم فاطمة(عليها السلام)، وعلم الحسن(عليه السلام)، وقلبه(عليه السلام) ينبض بالحبّ العظيم لله، ولرسول الله الأعظم صلّى لله عليه وآله وسلم، ولأمير المؤمنين(عليه السلام)، وللصديقة الطاهرة(عليها السلام)، ولصنوه المجتبى(عليه السلام)، وللأخت العقيلة(عليها السلام)، وللإسلام كلّه والمسلمين الصادقين. وهو روح يبعث الخير كلّه.

هذه هي ذكرى مولد الحسين(عليه السلام) كيف أعيشها؟ سؤال سهل ممتنع التعبير عنه بالكلم أو القلم، المهم أنّك تعقله وتفهمه وتفتّشه لتجيب عنه ; لأنّ مأساة الحسين(عليه السلام)كما عرفتها هي منذ ولادته إلى شهادته، هي مأساة ليس ككل مآسي البشر العاديين، كونها مأساة تختزن الفرح الرسالي والفرح الروحي ; لأنّها مأساة ترعرعت في بيت الرسالة الإسلاميّة فكانت تتغدّى بالوحي والطهر والصفاء والأمانة والعبودية الحقّة لله تعالى، لذلك عصي على من خان أمانة الوحي، وتولّى عن الطهر، ورفض الصفاء، وأشرك في العبودية لله أن يفقهها.

وسنبقى نبكي الحسين(عليه السلام) بدموع المواقف الرسالية حتّى نكون أهلاً لأن نستشعر الفرح الرسالي بالحسين(عليه السلام) في كلّ مأساته، حتّى لا نعيش الفرح دون الرسالة ; لأنّ الرسالة تستدعي حزناً يختزن الفرح، بينما أغلبنا يحبّ الفرح لوحده


الصفحة 166

وبدون تضحيات، وهذا فرح بلا معنى يقتل فينا المسؤولية التي هي معنى الإنسانية.

المقال الثالث: في ذكرى وفاة الإمام الصادق(عليه السلام):

تأمّلات في ضرورات إسلامية: الإمامة.. الحوار.. الانتماء:

تميّزت أقوال الأحبّة من مراجع وفقهاء وخطباء ومثقّفين ومفكّرين هذه السنة، حول شخصية الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) بالشفافية العقلانية والموضوعية والعبرة أكثر من ذي قبل “ناهيك عن الإعلام الإمامي الهادف الذي فتح المجال لنشر فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، وتبيان المؤامرة التأريخية” مبرزين جوانب مهمّة في العمل الإسلامي، ملفتين العقول إلى ضرورة قراءة مرحلة إمامة الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)، معتبرين أنّها من أهم المراحل في الحضارة الإسلاميّة.

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): “ذكر عند الصادق(عليه السلام) الجدال في الدين، وأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) قد نهوا عنه، فقال الصادق(عليه السلام): لم ينه عنه مطلقاً، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن”(1).

ولعل الكلام عن ذكرى وفاة الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)، يجرّنا مرغمين إلى البعد الأكثر حضوراً في سيرته وهو “الحوار الإسلامي”. هذا الحوار الذي نجد آثاره في كتابات الفقهاء والعلماء والمفكّرين والمؤرّخين في شهاداتهم عن سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وخصوصاً سيرة الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام)وفي هذا كلّه لقد عانى تراث الإمام الصادق(عليه السلام) كما أهل بيته كثيراً من التمويه ومصادرة الحقّ الإسلامي والحقيقة الإسلاميّة التي يجسّدونها قولاً وعملاً وموقفاً وشهادة، حتّى أنّك لتحار في تفسير اختفاء ترجمة تاريخ الإسلام(عليه السلام)لدى إخواننا السنّة، ولو برز يكون حسب المراد المذهبي الذاتي لا الحقيقة التأريخية، ورغم كلّ

____________

1- الاحتجاج 1: 14، فصل في ذكر طرف ممّا جاء عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من الجدال.


الصفحة 167

هذا وذاك فالإمام جعفر بن محمّد(عليه السلام) صاحب الزيادة والأثر في المدارس الإسلاميّة والمسيحيةّ، أو قل: الدينية كلّها، وما تلك المصادرة لموقعه الإسلامي والإنساني والعلمي والثقافي إلاّ جزء من العداء التأريخي لأهل البيت(عليهم السلام).

لكن يبدو أنّنا عندما نحاول أن نستحضر ذكرى أحد أئمّتنا الأطهار من أهل البيت(عليهم السلام) نجد أنفسنا أمام مرجعيات ثقافية عديدة نلاحظ أنّها غائبة عن وعينا كالقيمة الموضوعية والهدف المنهجي، كي لا نبقى حبيسي الاعتياد الذكرياتي الفارغ من الاعتبار، والغفلة عن الجواهر الكامنة في سيرة الأئمّة(عليهم السلام) والعلماء الصالحين رضوان الله عليهم، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى معوّقات آيديولوجية فوق نفسانية متجذّرة في الفكر الإسلامي الراهن، تثبّط العطاء والإبداع والتجديد والوحدة والتغيير، لذلك نحتاج في هذه الأيّام المباركة وكلّ المناسبات الإسلاميّة أن نتباحث حول شخصيّاتنا العظيمة، كشخصية الإمام الصادق(عليه السلام) من كونه إنساناً كاملاً فلا نغفل عن أيّة جزئية في حياته أو جانب فكري تناول سيرته ; لأنّ لفظة الإمام في المنظومة اللفظية الإسلاميّة “القرآن العظيم، والسنّة الشريفة” عظيمة الشأن جّداً.

زد إلى ذلك أنّها تشقّ طريقها لتركّز المسؤولية الرسالية في ذاكرة الوعي الإسلامي المعاصر، وفي مضمون التربية الإسلاميّة لأبنائنا، والتنظيم الاجتماعي والفّعالية الثقافية لمجتمعاتنا إلى ما هنالك من مشاريع إسلامية خامدة تنتظر الاهتمام والاجتهاد والجدّية في التغيير والنهوض من كبوة التخلّف والجهل والعصبية والظلم والدونية والإرهاب بجلّ أشكاله وأنواعه.

ومن اللطف الإلهي عنايته تبارك وتعالى بدوام الحقيقة الإسلاميّة واستمراريتها عبر الأجيال، حيث اتّسع اسم الإمام الصادق(عليه السلام) ليشمل جميع الذين يشتغلون بالثقافة والعلم الحديث “الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات . . . ، والفقه والإدارة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والزهد


الصفحة 168

والأخلاق والفلسفة والعرفان، إبداعاً وتوزيعاً وتنشيطاً.

وعلى كلّ فالركيزة الأساسية المستوحاة من شخصية الإمام الصادق(عليه السلام) ـ كما هو شأن كلّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ تتحدد بكونه الإمام المنفتح على الله وعباده، صاحب المسؤولية والقضية الإسلامية، المتفاعل مع قضايا مجتمعه الإسلامي، صاحب نظر فيها لا عن جاه أو مال أو قوّة، بل عن اجتباء وعلم وتفكّر وتدبّر وحكمة وخلق عظيم.

وممّا لا شك فيه أنّ دائرة الإمام واسعة في الإسلام ولا تكاد تنتهي بعد النبوّة، وعندما تُتجاوز ينفلت العقل الإسلامي ومجتمعه إلى عالم التيه والضلال والاستكبار التي تسير عكس التنظيم والتدبير الإلهي.

ولكن الذي حصل أنّه في الدائرة الإسلاميّة الواسعة يمارس تمويه لهذا المضمون الإسلامي المصيري في قبل بعض الجهات، وعندما تفشل إعلامياً في محاصرة الفكر الإمامي تستنجد بالسلطات وتقحمها في صراعها مع ذلك الفكر.

وهذا السيناريو تكرر كثيراً في تأريخ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) الحافل بالمصائب والويلات. ونورد في هذا السياق أحد نماذج مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، وهو يبرز مركزية الإمامة في البقاء الإسلامي ورقيّه.

“كان عند أبي عبد الله(عليه السلام) جماعة من أصحابه، فيهم حمران بن أعين ومؤمن الطاق وهشام بن سالم والطيار، وجماعة من أصحابه فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله(عليه السلام): يا هشام، قال: لبيك يا بن رسول الله.

قال: ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ وكيف سألته؟

فقال هشام: إنّي أجلك واستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله(عليه السلام) إذا أمرتكم بشيء فافعلوه.

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة،


الصفحة 169

وعظم ذلك عليّ، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثُمّ قعدت في آخر القوم على ركبتي.

ثُمّ قلت: أيّها العالم أنا رجل غريب أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟ فقال: اسأل.

قلت له: ألك عين؟

قال: يا بني أيّ شيء هذا من السؤال؟!

وشيء تراه كيف تسأل عنه؟

فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإنّ كانت مسألتك حمقاء.

قلت: أجبني فيها. فقال لي: سل، قلت: ألك عين؟

قال: نعم، قلت: فما ترى بها؟

قال: الألوان والأشخاص.

قلت: فلك أنف؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أشمّ به الرائحة.

قلت: ألك فم؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أذوق به الطعم.


الصفحة 170

قلت: ألك قلب؟

قال: نعم

قلت: فما تصنع به؟

قال: أميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح.

قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

قال: لا.

قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟

قال: يا بني الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته إلى القلب، فيتيّقن اليقين ويبطل الشك.

قلت: وإنّما أقام الله القلب لشك الجوارح؟

قال: نعم.

قلت: فلابدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح؟

قال: نعم.

قلت: يا أبا مروان، إنّ الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح، ويتيّقن لها من شكّت فيه، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم، وشكّهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك.

قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثُمّ التفت إليّ فقال لي: أنت هشام؟

قال: قلت: لا.

فقال لي: أجالسته؟

فقلت: لا.


الصفحة 171

قال: فمن أين أنت؟

قلت: من أهل الكوفة.

قال: فأنت إذن هو.

قال: ثُمّ ضمّني إليه، وأقعدني في مجلسه وما نطق حتّى قمت. فضحك أبو عبد الله(عليه السلام)، ثُمّ قال: يا هشام من علّمك هذا؟

قال: قلت يابن رسول الله جرى على لساني.

فقال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى”(1).

ولا يغيب عن أنّ نقطة الصراع الأصلية بين فرق المسلمين إنّما هي “الإمامة” فأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة، حيث ما سلّ سيف على قاعدة دينية مثلما سلّ على الإمامة في كلّ زمان.

وعلى كلّ فسعة المقال لا تسمح لنا بقراءة دقيقة وعميقة وراشدة لتأريخ الإمام الصادق(عليه السلام).

ولنحاول أن نلج دوائر أرحب في استهدائنا بشخصية الإمام الصادق(عليه السلام)، فمن الأسباب التي تدعونا إلى التعمّق في غمار تأريخه الحافل بالجمال الروحي والإمامة والرحابة والجهاد والوعي والوحدة والسلم والإصلاح الإسلامي:

1 – اضمحلال الجانب الروحي وخفوت هدير المنطق الإسلامي في منظومة الفكر الإسلامي، إذ إنّ الفكر المادي جعل أغلب المفكّرين يضيقون ذرعاً بالرأي المخالف وان كان في دائرة الصواب أو الخطأ.

2 – استمرار الأجيال بنفس المناهج التي وضعها السلفية، مع انطلاق سهام التضليل والتبديع والتكفير في حال تجديد المناهج البحثية للمستجدّات والتطوّرات الحاضرة. وهذا ملحوظ قلّما ننتبه إليه، والغفلة عن هذا البعد في آلياتنا

____________

1- الاحتجاج 2: 125، مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد.


الصفحة 172

ومنظوماتنا الثقافية الإسلاميّة لا يعطيها كمية التحرّك اللازمة للانطلاق في تعاملها مع قضايا الكون والإنسان والحياة، بل تتحّول إلى أزمة مسؤولية وجبن ثقافي.

3 – الفساد السياسي كأحد أكثر صور المرحلة الراهنة تصاعداً، مما أربك المشاريع الإسلاميّة في أساليب التعامل مع الأنظمة، ومحاولة تطهير العمل السياسي من براثين الجهل والتخلّف والاستبداد.

4 – العولمة، والاستكبار العالمي، والإرهاب المتعدد الأوجه، والتحدّيات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، والاستراتيجيات الاستعمارية الجديدة.

كلمة أخيرة إنّ ذكرى الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في مولده واستشهاده في إرهاصة قوّية لمفاهيم حضارية، كالمنطق الإسلامي، والحرية والعدالة والحوار والانفتاح الإسلامي، والشورى والسلم والاجتماعي، والإدارة الإسلاميّة والرحابة الإسلاميّة، واللاعنف، والمسؤولية الرسالية، والدور السياسي في المجتمع بالحكمة الإسلاميّة، والوحدة الإسلاميّة “الأمّة الواحدة”، هذه الأمور وغيرها التي ما زالت غائبة من ذاكرة الوعي الإسلامي العام، ولو بحثنا عنها لوجدنا أنّها قد طمست في ثنايا الاستكبار عبر تأريخنا الطويل، أو فبركت في ملفات الحسابات المذهبية والطائفية والسياسية وما هنالك من ميادين الصراعات الهامشية.

ونحن في هذا اليوم لا نزال نجاهد من أجلها ; لأنّها مربط الفرس التائه في خبال وأحلام حلّ المشكلة تأريخياً، متناسين أنّ ذلك التأريخ المملوء بالصراعات والجدليات والمظالم يعود كلّ حين إلى حاضرنا لا لتزداد القضية الإسلاميّة تعقيداً بالمعالم ذات الصبغة الجاهلية لتضفي على الانحراف التأريخي لبوس الدين.

ويضاف إلى هذا وذاك الممارسة التأريخية للصحابة والسلف على اعتبار


الصفحة 173

أنّها من حجج الشرع، بينما الأمر كلّه أنّ التأريخ آيات إذا حسن تدبّرها تنتهي حلقات الحصار على حرية التفكير والممارسة العملية للحوار والسلم والتسامح والتعايش واللاعنف وللعدالة والشورى والمساواة.

إنّنا بحاجة ماسّة لقراءة التأريخ بغثّه وسمينه، ومناقشته على ضوء الثقل الأوّل القرآن العظيم، لنلتقي بالثقل الثاني حتّى نتحرّر من أسر الاستكبار التأريخي الذي أفقدنا إرادة النهوض كأمّة رائدة وقائدة.

الإمام الصادق(عليه السلام) من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) الذين فتحوا فكرهم للناس كافّة، وبهذا كانت مدرسته ممتدة في الحياة الإسلاميّة كلّها، وتمثّل المدرسة الإسلامية الوحيدة المنفتحة على الناس كلّهم.

فقد كان(عليه السلام) يستقبل الملاحدة والزنادقة والفرق الضالّة في المسجد الحرام عندما يذهب إلى الحج، وفي بيته عندما كان يستقبل طلاّب المعرفة، فكان يفتح لهم قلبه وعقله ليقولوا كلّ شيء، ويحدّثهم عن رأيه في كلّ ما يقولون من دون أن يتعقّد منهم، ويجادل الحاكم المستبد باللين وبالتي هي أحسن فيفحمه فيستعصي على حكّام زمانه كيف ينالوا منه، وقد ذاع صيته بين الناس.

الإمام الصادق(عليه السلام) كان إمام المسلمين جميعاً، حيث تتلمذ على يديه كلّ من أبي حنيفة ومالك بن أنس.

والإمام الصادق(عليه السلام) هو مفجّر علوم آل البيت(عليهم السلام)، حيث نستلهم من هذا كلّه أن نكون منفتحين على من حولنا، حتّى الذين نختلف معهم في المهب، ونكون أهل علم ومعرفة لا جهل وتخلّف وجاهلية ; لأنّنا دعاة للإسلام الصافي النقي من خلال أخلاقنا وانفتاحنا على الآخر ككل، ومن خلال ثقافتنا وإسهاماتنا في العلم الحديث وتطويع مصاعب الحياة للإنسان ; لأنّا دعاة الرحمة والسعادة الأبدية للبشرية جمعاء، هكذا كان الإمام الصادق(عليه السلام) كما هم أهل بيته(عليهم السلام)، وكما هو


الصفحة 174

صاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه الشريف.

في الختام إنّني أريد أن أقول لكلّ المسلمين “سنة وشيعة” لابدّ من اللقاء والحوار والانفتاح لنبحث مسألة الإسلام والتشيّع بحثاً عميقاً من أجل إيجاد مصالحة واقعية مستقبلية لا مصالحة سياسية، وندرس الإسلام والتشيّع دراسة جدّية وعلمية وعملية فنفوّت الفرصة على الذين يعلبون لعبة “التكفير والإقصاء والتجاهل والسباب والذم و . . . “، أن يلعبوها مرّات ومرّات أخرى.

في رحاب هذا اليوم الزكي والخالد: خلود الإمامة اليوم الخامس والعشرين من شهر شوال من كلّ سنة هجرية، نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، سادس أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لنستذكر الشهادة والعصمة والطهارة والإخلاص والتوحيد والرضا بالقضاء والقدر دون أدنى شك أو ريب، ونحن علاقتنا بالثقلين تنطلق من القراءة الواعية لهما، ومن علاقتنا العميقة بالإسلام دين الحياة ; لأنّ أهل البيت(عليهم السلام) هم المخلصون للرسالة، والملتزمون بحقّ بها، والمجاهدون بصدق في سبيلها، والعاملون على إيضاحها للناس وإبعادها عن التحريف، لكن تبقى الذكريات بحاجة إلى وعي، ويبقى التشيّع صميم الإسلام، ونصير المستضعفين، وخصيم المستكبرين في العالم المعاصر، ونبقى في رحاب كلمة الإمام السجاد(عليه السلام)، التي قالها لأحد أصحابه: “أحبّونا حبّ الإسلام”(1)، والتي على أساسها ندرك صحّة علاقتنا ووعينا وحبّنا للإمام الصادق(عليه السلام) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وبالتالي ينطلق الإسلام فينا من جديد، وندعو له بشكل جيّد وجديد دون أيّة مساومة أو تخلّف، ولا تنازل عن الحقّ والمسؤولية والصدق والإخلاص والأمانة والوحدة والشهادة كضرورات رسالية.

____________

1- الإرشاد 2: 141، فضائل الإمام علي بن الحسين(عليه السلام).

 

المصدر :مركز الأبحاث العقائدية
الإستبصار (http://estebsar.ir)


تعليقات المستخدم

عدد التعليقات 0

ارسال تعليق



محتويات المادة المذكورة أعلاه