الذنوب
إنّ بين الأمراض الصحية التي يعانيها الانسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبهاً قوياً في نشأتهما، وسوء مغبتهما عليه.
فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء، وقاية وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية، والنظم السماوية، التي شرعها اللّه تعالى لاصلاح البشر وإسعادهم.
وكما يختص كل مرض بأضرار خاصة، وآثار سيئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب فان لكل نوع منها مغبة سيئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تسبب للانسان ألوان المآسي والشقاء.
ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الاساءة والأذى، فان الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.
لذلك كانت الذنوب سموماً مهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الانسان فساداً، وتعرضه لصنوف الأخطار والمهالك.
أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صوراً رهيبة من غوائل الذنوب، وأخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة:
قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾(الاسراء:16).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾(الأنعام:6).
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأنفال:53).
وقال تعالى:﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾(الشورى:30).
وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم:41).
وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامة، وأوضحت أن ما يعانيه الفرد والمجتمع، من ضروب الأزمات، والمحن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشح الأرزاق، كل ذلك ناشئ من مقارفة الذنوب والآثام، واليك طرفاً منها:
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار؟!!“1.
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتحبب اليك بالنعم، وتتمقت اليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك اليّ صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، يابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تعلم من الموصوف، لسارعت الى مقته” 2.
وقال الصادق عليه السلام: “إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يُفلح بعدها أبداً” 3.
وقال الباقر عليه السلام: “إن العبد يسأل اللّه الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها الى أجل قريب أو الى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إياها، فانه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان مني” 4.
وقال الصادق عليه السلام: “كان أبي عليه السلام يقول: إن اللّه قضى قضاءاً حتماً ألا ينُعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه، حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة” 5.
وقال الرضا عليه السلام: “كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون“6.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: “اذا غضب اللّه عز وجل على أمّة، ولم ينزل بها العذاب،غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم يربح تجارها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحُبس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها“7.
وقال الباقر عليه السلام: “وجدنا في كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار،وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم“8.
وعن المفضل قال: قال الصادق عليه السلام: “يا مفضل إياك والذنوب، وحذّرها شيعتنا، فواللّه ما هي الى أحد أسرع منها اليكم، إن أحدكم لتصيبه المَعَرّة من السلطان، وما ذاك إلا بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذاك الا بذنوبه، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا بذنوبه، حتى يقول من حضر: لقد غُمّ بالموت.
فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري لم ذاك يا مفضل؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك واللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا“9.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: “توقوا الذنوب، فما من بلية، ولا نقص رزق، الا بذنب، حتى الخدش، والكبوة، والمصيبة، قال اللّه عز وجل: وما أصابكم من مصيبة، فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير“10.
وربما لبّس الشيطان على بعض الأغراء، بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافها، وهم رغم ذلك في أرغد عيش وأسعد حياة.
وخفي عليهم أن اللّه عز وجل لا يعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنما يمهل العصاة، ويؤخر عقابهم، رعاية لمصالحهم، عسى أن يثوبوا الى الطاعة والرشد، أو يمهلهم إشفاقاً على الأبرياء والضعفاء ممن تضرهم معاجلة المذنبين وهم برءاء من الذنوب.
أو يصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طغياناً وإثماً، فيأخذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرحت بذلك الآيات والروايات.
قال اللّه تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(آل عمران:178).
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى…﴾(فاطر:45).
وقال الصادق عليه السلام: “إذا أراد اللّه بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمة، لينسيه الإستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:﴿…سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾(القلم:44) بالنعم عند المعاصي” 11.
وقال الامام موسى بن جعفر عليهما السلام: “إنّ للّه عز وجل في كل يوم وليلة منادياً ينادي: مهلاً مهلاً، عباد اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائم رتّع، وصبية رضّع، وشيوخ ركّع، لصبّ عليكم العذاب صبّاً، ترضّون به رضّاً“12.
وقد يختلج في الذهن أن الأنبياء والأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المحن والأرزاء؟
وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوت باختلاف الأشخاص، ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديتهم للّه عز وجل.
فربّ متعة بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأول طيبة مباحة، ويحسبها الثاني جريرة وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشفه من ذكر اللّه عز وجل وعبادته.
وحيث كان الأنبياء عليهم السلام هم المثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتوله بعبادته، أعتُبر ترك الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل: “حسنات الأبرار سيئات المقربين”.
هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك. وقد تكون المحن والارزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عز وجل.
التوبة
لقد عرفتَ غوائل الذنوب، وأضرارها المادية والروحية، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسمية في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.
فكما تجدرُ المسارعة الى علاج الجسم من جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجب المبادرة الى تصفية النفس، وتطهيرها من أوضار الذنوب، ودنس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعسر تداركها.
وكما تعالج الأمراض الصحيحة بتجرع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهية الضّارة، كذلك تعالج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن أخطارها ومآسيها الدنيوية والأخروية.
حقيقة التوبة
لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها، واجتيازها أطواراً ثلاثة:
فالطور الأول: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصية اللّه تعالى، وتعرضه لسخطه وعقابه، فاذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل الى:
الطور الثاني: وهو طور الانابة الى اللّه عز وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحول الى:
الطور الثالث: وهوطور تصفية النفس من رواسب الذنوب، وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسنات، وتلاشي السيئات، وبذلك تتحقق التوبة الصادقة النصوح.
وليست التوبة هزل عابث، ولقلقة يتشدق بها اللسان، وإنما هي: الانابة الصادقة الى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزم وتصميم قويين، والمستغفر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهتر كذّاب، كما قال الامام الرضا عليه السلام:”المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه“.
فضائل التوبة
للتوبة فضائل جمة، ومآثر جليلة، صورها القرآن الكريم، وأعربت عنها آثار أهل البيت عليهم السلام.
وناهيك في فضلها أنّها بلسم الذنوب، وسفينة النجاة، وصمام الأمن من سخط اللّه تعالى وعقابه.
وقد أبَت العناية الالهية أن تُهمل العصاة يتخبطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العصيان، دون أن يسعهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوقهم الى الأنابة، ومهد لهم التوبة، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الأنعام:54).
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر:53).
وقال تعالى حاكياً: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾(نوح:10-12).
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة:222).
وقال الصادق عليه السلام: “إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبه اللّه تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة. قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثم يوحي اللّه الى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي الى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب“13.
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له“.
وقال صلى اللّه عليه وآله في حديث آخر: “ليس شيء أحب الى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة“14.
وعن أبي عبد اللّه أو عن ابي جعفر عليهما السلام قال: “إن آدم قال: يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم مني فاجعل لي شيئاً.
فقال: يا آدم جعلتُ لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم يكتب عليه شيء، فان عملها كتبت عليه سيئة، ومن همّ منهم بحسنة فان لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشراً.
قال: يا رب زدني. قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له. قال: يا رب زدني. قال: جعلت لهم التوبة حتى يبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي“15.
وقال الصادق عليه السلام: “العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجله اللّه سبع ساعات، فان استغفر اللّه لم يكتب عليه، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه من ساعته“16.
وقال عليه السلام: “ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: “أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والاكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليّ” إلا غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة“17.
وجوب التوبة وفوريتها
لا ريب في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:
أما العقل: فمن بديهياته ضرورة التوقي والتحرز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الانسان وهلاكه. لذلك وجب التحصن بالتوبة، والتحرز بها من غوائل الذنوب وآثارها السيئة، في عاجل الحياة وآجلها.
وأما النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة فرضاً محتّماً، وشوقت اليها بألوان التشويق والتيسير.
فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: “قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه تبوته، ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته. ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل اللّه توبته“18.
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إنّ للّه عز وجل فضولاً من رزقه يُنحله من يشاء من خلقه، واللّه باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له“19.
تجديد التوبة
من الناس من يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والانابة، ملبياً داعي الايمان، ونداء الضمير الحُر.
بيد أنّ الانسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقه بأهوائها ومغرياتها، فيقارف المعاصي من جديد، منجرفاً بتيارها العَرمِ، وهكذا يعيش صراعاً عنيفاً بين العقل والشهوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أخرى، وهكذا دواليك.
وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الانابة خشية النكول عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.
فعلى هؤلاء أن يعلموا أن الانسان عرضة لاغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلا المعصومون من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وانّ الأجدر بهم إذا ما استزلهم بخدعه ومغرياته، أن يجددوا عهد التوبة والانابة بنيّة صادقة، وتصميم جازم، فان زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطهم ذلك عن تجديدها كذلك، مستشعرين قول اللّه عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر:53).
وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيت عليهم السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الانابة، إنقاذاً لصرعى الآثام من الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.
فعن محمد بن مسلم قال: قال الباقر عليه السلام: “يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنها ليست إلا لأهل الايمان.
قلت: فان عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة. فقال: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل اللّه توبته!! قلت: فانه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، فإيّاك أن تُقنّط المؤمنين من رحمة اللّه تعالى“20.
وعن أبي بصير قال: “قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا…﴾(التحريم:8)؟ قال: هو الذنب الذي لا يعود اليه أبداً. قلت: وأيّنا لم يعد. فقال: يا أبا محمد. إن اللّه يحب من عباده المفتن التوّاب“21.
المراد بالمفتن التوّاب: هو من كان كثير الذنب كثير التوبة.
ولا بدع أن يحب اللّه تعالى المفتن التواب، فان الاصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليل صارخ على موت الضمير وتلاشي الايمان، والاستهتار بطاعة اللّه عز وجل، وذلك من دواعي سخطه وعقابه.
منهاج التوبة
ولا بد للتائب أن يعرف أساليب التوبة، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب، ومسؤولياتها الخطيرة، ليكفّر عن كل جريرة بما يلائمها من الطاعة والانابة.
فللذنوب صور وجوانب مختلفة:
منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قسمان: ترك الواجبات، وفعل المحرمات.
فترك الواجبات: كترك الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهد المستطاع.
وأما فعل المحرمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها من المحرمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.
ومن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعة ومسؤولية، وأعسرها تلافياً، كغصب الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرمة، وهتك المؤمنين بالسب والضرب والنمّ والاغتياب.
والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات الى أهلها، ما استطاع الى ذلك سبيلاً، فان عجز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسناته، والتضرع الى اللّه عز وجل أن يرضيهم عنه يوم الحساب.
قبول التوبة
لا ريب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالاجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ…﴾(الشورى:25).
وقال تعالى:﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ…﴾(غافر:3).
وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً من الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.
وأصدق شاهد على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبي صلى اللّه عليه وآله حيث قال: “لولا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه لخلق اللّه خلقاً حتى يذنبوا ثم يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول اللّه ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة: 222)22 .
أشواق التوبة
تتلخص النصائح الباعثة على التوبة والمشوقة إليها فيما يلي:
1- أن يتذكر المذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، من غوائل الذنوب، ومآسيها المادية والروحية، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعد اللّه عليها من صنوف التأديب وألوان العقاب.
2- أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.
وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.
* أخلاق أهل البيت عليهم السلام، السيد محمد مهدي الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ص:165
1- البحار م 15 ج 3 ص 155 عن امالي الصدوق.
2- البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون اخبار الرضا للصدوق.
3- الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
4- المصدر السابق.
5- الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
6- الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
7- الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب والفقيه.
8- الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
9- البحار عن علل الشرائع.
10- البحار عن الخصال.
11- الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
12- الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
13- الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
14- البحار م 3 ص 98 عن عيون اخبار الرضا عليه السلام.
15- الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي.
16- البحار م 3 ص 103 عن الكافي.
17- الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي.
18- الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
19- البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق رضوان الله عليه.
20- الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
21- الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
22- البحار م 3 ص 103 عن الكافي.