محمّد الرصافي المقداد | قاعدة البیانات الاستبصار

آخر الأخبار

خانه » المستبصرین » نبذة عن حياةالمستبصرين » محمّد الرصافي المقداد

محمّد الرصافي المقداد

الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ،

(مالكي / تونس)

مرّت ترجمته في (3: 203) من هذه الموسوعة، ونشير هنا إلى ما حصلنا عليه من معلومات لم تُذكر من قبل.

بعد تجلّي الحقائق لـ”محمّد الرصافي” أخذ على عاتقه مهمّة تبينها ونشرها في أقطار العالم من خلال نشر المقالات حول أهم المسائل المطروحة في الساحة العقائدية، وقد أرسل مقالاته إلى مركز الأبحاث العقائدية من أجل طبعها ونشرها.

كما أنّه ألّف العديد من الكتب التي سيطبعها مركز الأبحاث العقائدية قريباً.

من مؤلّفاته:

1 – نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب.

2 – بيّنات من الهدى.

وقفة مع كتابه “بينات من الهدى”:

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات، كتبها المؤلّف في أوقات مختلفة، وبعثها إلى مركز الأبحاث العقائدية من أجل طبعها ونشرها، فقام المركز بمراجعتها وتصحيحها واخراجها في كتاب سماه بيّنات من الهدى.

وتوضّح هذه المقالات عقائد الشيعة وتبيّن معارف أهل البيت(عليهم السلام)، مع
الصفحة 53

دراسة مقارنة بين عقائد الشيعة وعقائد مذهب أهل السنّة وجاء في بداية هذا الكتاب:

تشكو المجتمعات الإسلامية عموماً من نقيصة سيّئة ظلّت ترافقها منذ زمن طويل، وهي شدّة اهتمامها بالمحسوسات، وإهمالها للغيبيات، وبمعنى أدقّ انجذابها للدنيا وتباعدها عن دينها.

ففي أكثر نواحي حياة أفرادها نجدهم يولون اهتماماً مفرطاً إلى البهرج والزينة، يتحسسون فيهما أنجح الصفقات، وأقوم المكسب، وأجود المتاع، وألذ المأكلّ قد يقضي هؤلاء أكثر أوقاتهم من أجل تحصيل شيء زائل، وفي كسب مطلب لا يستحق كُلّ ذلك الجهد والاهتمام والوقت، لكنّك إذا التفت إلى علاقاتهم بدينهم وأسباب بلوغ رضوان الله تعالى في الآخرة، لا تجد منهم نفس الاهتمام والرغبة واللهفة والجهد، بل لا تكاد تجد شيئاً من ذلك كلّه عند أكثر أفراد الأمة، ولا دليل أسوقه هنا أوضح من انصراف أكثر الصحابة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وهو يخطب في صلاة الجمعة، ليجتمعوا بدحية الكلبي وما أتى به معه من تجارة.

ولئن عبرت تلك الحادثة عن سطحية عقيدة المنفضين عن الله تعالى إلاّ أنّها في نفس الوقت أشارت إلى أنّ الدنيا يبقى لها أثر لا ينمحي من أكثر النفوس حتّى ولو كانت متصلة بأفضل الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويبقى عامل الدنيا هوالمؤثر في عموم الناس، ولكن يمكن تغييره ليكون في صالح الدين…

وهي قلة المطالعة، وانصراف همّة أفرادها عن تحصيل المعلومة، إلى درجة الاتّكال على الغير في أخذها وتلقّفها.

وهذه الظاهرة ليست وليدة العصر الحديث بقدر ما هي قديمة قدم مؤسسيها من القصاصين والوعّاظ والرواة من اليهود، قرّبتهم الأنظمة آنذاك، ووسعت لهم
الصفحة 54

في مجالسهم ; ككعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، الذين وجدوا أمامهم مجالاً لتمرير افكارهم المسمومة وعقائدهم المحرّفة، ولولا حزب النفاق الذي كان المؤسس الأوّل لوظيفة القاصّ لما كان لهؤلاء وجود داخل منظومتنا الخاتمة، ولا كان لهم أثر سلبي على جانب من الروايات التي تمسّ بجوهر الدين وعقيدته، وكان الوضع الاجتماعي والعلمي للأُمّة في ذلك الوقت دافعاً إلى تلك النتيجة، بحكم قلّة الكتب، وانعدام توفّرها، وتعسّر وصول طالبي العلم إليها، لأنّها نسخ معدودة بعدد أصحابها، الأمر الذي أوجد في أفراد الأُمّة عقليّة التواكل، والعزوف عن تحصيل المعلومة لضنين مواردها، وفسح المجال من جهة أُخرى إلى الطغاة والظالمين ليمرروا سياساتهم الهدّامة، وأفكارهم المريضة إلى عقول الأمّة بعناوين إسلامية.

وعوض أن يتفطن الناس إلى ما دُبّر لهم من تضليل وتجهيل إلتفّوا حول أولئك الذين اشتروا آخرتهم بدنيا زائلة لا محالة، فأعطوهم نوافذ عقولهم وأفئدتهم، وأصغو إليهم بجوارحهم إصغاء الأبله المريض، بينما كان القصاصون من الجهة المقابلة يدسّون السمّ في الدسم، وينشرون ما يقوي الظالمين، ويشدّ أزر سلطانهم، فلم ينتبه إلى الحق إلاّ القليل، ومضى الأمر على ذلك النسق زمن طويلاً،تربّت فيه الأجيال على ثقافة مشوشة بالكذب والبهتان والزور، وجاء عصر التدوين، فكتب حق وباطل، أثبت بعد ذلك، ثُمّ وصف بالصحة، ونودي عليه بالسلامة والنقاوة، وسُمّي سنّة نبويّة، ولو علم الناس انقطاعه عن زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لما أخذوه وعملوا به.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أستحضر مقالة للإمام علي(عليه السلام)، تحدّث فيها عن أصناف رواة السنّة النبويّة المطهّرة استكمالاً للفائدة المرجوّة من وراء ذلك إذ يقول(عليه السلام):

“إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً
الصفحة 55

وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتّى قام خطيباً فقال: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج، يكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) متعمداً، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، سمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمّ بقوا بعده ـ عليه وآله السلام ـ، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله، فهو أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يديه يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً يأمر به، ثُمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثُمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم الناس إذ سمعوه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاصّ والعامّ فوضع كُلّ شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه…”(1).

____________

1- شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبدة 2: 188 ـ 190.

لقد كان للعامل السياسي في تفشي ظاهرة الكذب في دين الله تعالى الأثر الأكبر، مضافاً إلى ذلك الإجراء الظالم في منع تدوين الأحاديث النبوية، والذي استمر أكثر من قرن ونيف، حتّى إجازة التدوين ـ التي صدرت من عمر بن عبد العزيز، وبوشر العمل بها بعده ـ كانت مقيدة ومخصوصة، بحيث لم تشمل جميع من له صلة بالرواية والفقه، وإنّما تعلّق الأمر بالمقرّبين من البلاط الأموي، بينما أُقصي غيرهم باعتبارهم مناوئين للسلطة.

وإذا نحن استعرضنا من جانب آخر تشجيع الأمويين ـ وعلى رأسهم مؤسّس سلطانهم معاوية بن أبي سفيان الطليق ـ بعض الصحابة كأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وإغرائهم بالأموال والأعمال، للكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، في عصر ما زال التدوين فيه بعيداً عن الحصول، تكونت لدينا فكرة ثابتة وصحيحة، عن الظروف والأوضاع التي مرّت بها السنّة النبوية التي هي بين أيدينا الآن، أخصّ بالذكر منها ما هو متعلق بما يُسمّى بـ(الصحاح) والمسانيد، وبقية الكتب الروائية عند بني مذهبي الذين كنت منهم.

وعلى ذلك حصل لدينا يقين بأنّ الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض لا يمكنه أن لا يكون إلاّ حكيماً دائماً، ومكمّلاً دائماً، ومتمّاً دائما ومحسنا دائماً، فقد جعل لمسألة حفظ دينه بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، مستحفظاً يذب عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو الإمام المبين، ومن عنده علم الكتاب، باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والهادي إلى سبيل الله تعالى من بعده، وثقل القرآن وعدله، الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي لو تأمّلت سيرته، بما فيها من تضحيات في سبيل الحق، وبذل للمهجة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونوره المبين، وتتبعت كلامه الذي قال عنه جهابذة اللغة وأرباب البلاغة: “إنّه دون كلام الله تعالى وفوق كلام البشر”، واستقصيت دعاءه الذي لم

يشهد له الناقلون مثيلاً من حيث العمق المعنوي، والقوّة البلاغيّة، والتناسق الفكري، والبناء العقائدي، ونظرت إلى من كان حوله من أصحابه واتباعه، والتفت إلى من ناوءه وظلَمه وحارَبه وهضم حقه، تأكّدت أنّ الحق أبلج كالنور، وأعلى كالقمم الشماء، فليس بعد الحق إلاّ الضلال المبين.

إنّ الإسلام دين خاتم جاء ليصحح ما حرّف من رسالات سابقة، وليقوّم اعوجاج مسار البشريّة، ويوجهها جميعاً إلى التوحيد الخالص الذي لا شرك فيه، وأعني بذلك فصل الدين عن الحياة، واعتبار أنّ الدين شيء والسياسة شيء آخر.

لقد شرّع المولى تعالى دينه الخاتم ليشكل به خلاصة الرسالات السابقة، فهو مجموعة من الأحكام التي تتعلّق بعلاقة الفرد مع خالقه ومع غيره من البشر والكائنات، وهذه المنظومة تحتاج لاستمرارها إلى أداة تنفيذ وحفظ تكون من جنس التشريع، والقول بغير هذا كلام غير مبني على أساس، ولا يستند على دليل منطقي.

نقطة الخلاف الأساسي بين المسلمين اليوم ـ بصرف النظر عن بعض الخلافات في التوحيد والنبوة ـ هي نظام الحكم في الإسلام، علينا أن نبحث بما توفّر لدينا من نصوص عن أصحاب الرأي الأصح، والحجّة الأقوى ; لنكون معهم يداً واحدة بها يتجدّد الدين، ويقوم أساسه الأول وهو (الإمامة).

عليك أيّها المسلم الرشيد أن تعيد حساباتك جيداً، وتبحث بين ذلك الركام الذي وصلنا عبر قرون طويلة، استطال فيها الظلم والبغي، حتّى أصبح ديناً يتعبّد به الناس، فتخير سبيل الرشاد، واُنظر لنفسك من ستقدم، يوم يدعو الله تعالى كُلّ أناس بإمامهم، وأسأل الله تعالى العون على ذلك، مخلصاً له في كُلّ حركة تقوم بها، وتأكد أنّه لن يتركك سدى.
الصفحة 58

وقفة مع كتابه “نعم لقد تشيعت وهذا هو السبب”:

يتضمّن هذا الكتاب مجموعة حوارات بعض المستبصرين مع أهل السنّة، منها:

حوار حول أسباب تشيّع هؤلاء:

التقيت بهم على غير موعد ، فقد كانوا تعوّدوا على الالتقاء في مكان واحد ، يتحسّسون فيه الأُلفة والأُنس، وتبادل الراي ، وتمتين رابطة الإخوّة ، وأواصر الصداقة ، في عصر قلّت فيه الإخوّة وهُجرت الصداقة قلوب أغلب الناس ، وانعدم الشعور بالراحة والأُنس والطمأنينة اتجاه الآخر ، ولم يعد للرأي والمشورة نصيب ، حتّى الدين الذي له من القداسة والخشية في القلوب ، لقي من العنت والتطاول ما جعل الجرأة عليه أكثر من أيّ شي آخر ، وقد كان للحكّام العرب على مرّ التاريخ دور كبير في إضعافه ، وتحريف بعض أحكامه وتعطيل البعض الآخر ، وكان الناس في ذلك تبعاً لهم ، إلاّ قليلا من المؤمنين ; لأنّ أغلبية البشر عبيد الدنيا ، وقد قيل : يؤخذ بالسلطان ما لا يؤخذ بالقرآن ، والناس على دين ملوكهم .

إذاً في عصر طغى فيه الاستبداد ، وعمّت الأنانية حتّى ذهبت بفلسفة الخلق وطبيعة النشأة ، فلم يعد يعني لوجود الإنسان الذي كرّمه الله تعالى ، وفضّله على سائر مخلوقاته غير المظاهر المادية ، وعلامات الترف والاستعلاء على الآخرين .

وسط تلك الأجواء كان اللقاء .. وكان التعارف ، من أجل إحياء الروح الإيمانية التي تكاد تتلاشى من مجتمعاتنا الإسلامية ، ومن أجل صياغة الفرد المؤمن ، وبناء علاقة أساسها الحبّ في الله تعالى والبغض في الله ، وما الدين في جوهره وحقيقته إلاّ تولّياً وتبرّياً، ولم توجد على مرّ تاريخ البشريّة نماذج كثيرة من هذه العلاقات ، إذ استثنينا حركة المعصومين في مجتمعاتهم ـ وأعني بهم الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) أو مجالات تحرّك المرجعيات وعلماء الأُمة رضوان الله تعالى عليهم .

وطبيعي في هذه الحالة أن ينتابني شعور من الغبطة والاعتزاز والرضى وأنا أرمق تلك الوجوه المحيطة بي ، قد زانها الله تعالى بنور الإيمان ، وأسبغ عليها من فضله في إدراك ما لم يهتد إليه آخرون .

توجّهت في مفتتح اللقاء بسؤال عام وجّهته للجميع ، ليتحدّثوا عن السبب الذي دفع بهم إلى الخروج عن معتقد المجتمع وموروث الأُسرة ، والانتقال إلى فضاء اعتقادي آخر ، يختلف في بعض تفاصيله ، وكثير من بواطنه عمّا كانوا يتعبّدون به سابقاً ، الغاية واحدة والأسباب كثيرة ، متنوعة بتنوع عقول الناس وأفئدتهم ، والنهج التعبدي الجديد امتلك من قوّة الدليل بحيث تنوّعت وتعدّدت أدلّته على أحقّيته في أن يكون له وحده الحقّ في أن يكون عنوان الإسلام المحمدي الصافي من كلّ الأدران التي أحكمت طوقها وأسرت جمعها ، ورمت بهم إلى الشبهة والظنّ والهوى قامعة إياهم بمقامع الظالمين.

رأيت أن أجعل أسباب تشيّع هذه الثلّة ، موضوع هذه الدراسة لعلّها تكون الدافع القوي لمن لم يطلع على العلل التي دفعت بكثير من المسلمين إلى تحريك عقولهم نحو نور الإيمان الحقّ ، نور محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وفاطمة وعلي والحسن والحسين والأئمة التسعة الأطهار من ذريّة الحسين(عليهم السلام) ، منهم فاضت معالم الدين الحقّ على المؤمنين …

شيّعتني الحجج التي في كتب السنّة المعتمدة:

وكان أحد المستبصرين يدعى حسن قبل أنْ يعتنق خطّ الشيعة الإمامية الاثني عشريّة مثلي ومثل بقيّة الإخوة المؤمنين مالكيّاً أشعريّاً ، لم يكن معتقداً إسلاماً آخر صحيحاً غير الذي كان يعتنقه ، وقد عمّقت قناعاته ما كان يتلقّاه من معلومات عن بقيّة الفرق والمذاهب خلال الدرس في مادة التربية الإسلاميّة ،
الصفحة 60

والتي كتبت بأقلام جرى فيها حبر التعصّب الأعمى ، وتلوّنت بشتّى الافتراءات والأكاذيب التي لفّقت من أجل إطفاء نور الإسلام الحقّ ، مضافاً إلى التربية التي تلقّاها على ذلك الأساس ، والتي لم تسمح له بالالتفات إلى بقيّة الاتجاهات الإسلاميّة والتمييز بينها .

في إحدى التظاهرات التي كانت تقام هنا وهناك على الساحة التونسيّة ، بمناسبة يوم الأرض ، واليوم العالمي لحقوق الإنسان ، وغيرها من المناسبات التي يتجنّد المثقفون التونسيون لإحيائها داخل أسوار الجامعة ، من أجل الإبقاء على نفس المبادىء ، داخل وجدان الطلائع المؤمنة بها ، التقينا على مائدة الحوار الإسلاميّ ، إسلاميّاً ، باحتشام ومداراة شديدين ، ولولا علاقة الجيرة التي كانت تربطنا ببعض ، لما أمكن لنا أن نلتقي في ذلك الحوار الذي وقف في وجهه قياديّو النهضة ، وشدّدوا على منع عناصرهم من الانخراط فيه ، أو حتّى الاقتراب منه بأيّ شكل من الأشكال .

أتذكر أنّه في تلك الفترة التي بدأت الدعوة إلى التشيّع تظهر على الساحة ، وفي أماكن معدودة ، ومن طرف عناصر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، بدأت قيادات النهضة في ترويج كتب إحسان إلهي ظهير ، التي كان يراد بها تكفير الشيعة ، وإخراجهم عن الإسلام ، وتنفير المسلمين منهم ، في محاولة لنسف أسس الدعوة إلى فكرهم ، وغلق الطرق المؤدية إليهم أمام عناصرها الإسلاميّة ، وذلك لمّا رأوا أنّ أعناق بعض منتسبيها بدأت أياديها تمتدّ إلى كلّ ظاهرة إسلاميّة ، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران .

بحكم تواجدي داخل أسوار الجامعة ، وفي كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ، حضرت في أحد الأيّام مناقشة بين زميلين ، أحدهما شيعيّ وكان داعية إلى التشيّع ، والآخر سنيّ من خطّ النهضة ، وبقدر ما كان النقاش محتدما وحامياً بين الطرفين ، بقدر ما كان غير متكافىء ، وقفت فيه على حقيقة قلبت مجرى اعتقادي رأساً على عقب .

في البداية كنت مأخوذاً بالتهم التي ساقها السنيّ النهضوي ، ليضع التشيّع بما اشتمل عليه وأهله في موضع المتجنّي على الإسلام ، لكنّني وبمرور الوقت ، بدأت أشعر أنّ هناك منطقاً آخر وحجّة تغازلان عقلي ، وتدفعانه نحو اكتشاف الحقيقة والوقوف عليها .

لم أكن أعلم أنّ الشيعيّ كان من حركة النهضة ، ولما التقى بأحد الدعاة الشيعة اقتنع بالطرح الذي قُدِّم له ، واعتنق الفكر الشيعيّ الاثني عشري ، وطبعاً لم يكن ذلك ممكناً من لقاء واحد ، أو من خلال بحث واحد .

كانت أولى مقالات الزميل السنّي متعلقة بتحريف القرآن ، فقال : إنّ من أقوى البراهين التي استُدلّ بها على بطلان مذهب الشيعة هو قولُهم بتحريف القرآن ، وجلّ علمائهم يدينون بذلك ، وكتبهم ملئى بالروايات التي تقرّ بالتحريف .

فقال الزميل الشيعي : أظنّك قد استقيت ذلك من كتاب إحسان إلهي ظهير “الشيعة والقرآن” ، ومن بعض الأقلام المشبوهة التي لا يعرف لها أصل من فصل ، لأنّني لم أعثر على مفسّر واحد من مفسري الشيعة يعتقد بتحريف القرآن ، ويدين به ، ناهيك أنّه خلاف قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) والقرآن الذي تعرفه وتتلوه وتصلي بسوره وآياته ، ويباع في المكتبات ، ويلقن في الكتاتيب ، هو نفسه القرآن الذي يدين به الشيعة منذ أن وجدوا ، ولم يخرج على الناس مفسر واحد منهم بغير ما هو متعارف عند جميع المسلمين ، ولو كان الأمر كما تدّعي ، لانتهى أمر الشيعة بهذا الادّعاء المنحرف .

قال السنّي : إحسان إلهي ظهير تحدّث عن أكبر حُفّاظ الشيعة ، ورأس رواياتهم الشيخ الكليني ، الذي أخرج عدداً من روايات التحريف .

____________

1- الحجر(15): 9 .

قال الشيعيّ : إنّ الشيخ الكلينيّ أخرج تلك الروايات لسبب واحد ، هو الأمانة العلمية التي حتّمت عليه نقل تلك الروايات ، لكنّه من الجهة الاعتقاديّة لم يكن مطمئنا لها ، فأفرد لها باب في كتابه الكافي سماه باب النوادر ، وقد درج الشيخ الجليل على تخصيص باب للنوادر في كلّ أبواب الفقه ، وهي خاصيّة تميّز بها عن غيره من علماء (السنّة) كالبخاري ومسلم وغيرهما ممّن أخرج روايات التحريف في القرآن ، وأدرجوها في أبواب الفقه دون حيّز ولا فصل ، والاعتقاد بالزيادة أو النقيصة في القرآن اعتقاد واحد ، وأزيدك أكثر ، عندما نرى في عصرنا الحاضر أنّ الله تعالى دافع عن الشيعة في مسألة تحريف القرآن ، وكيف لا يفعل وهو الذي يقول : {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور}(1) فقد ظهر من أبناء الشيعة هذه السنوات أطفال صغار السنّ حفظوا القرآن حفظاً عجيباً لم يأت الزمان بمثله ، فمن إيران الإسلاميّة إلى العراق ، خرج علينا براعم في عمر الزهور ذكوراً وإناثاً بعجيب حفظ ، أذهل العقول وأثار الغرابة ، وألقم الذين نسبوا إلى الشيعة تحريف القرآن حجراً لو كانوا يعقلون ، فإذا كان الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن فلماذا يتعهدونه ويحفظونه لناشئتهم؟ ولماذا يزيدهم الله تعالى من فضل رحمته بحفظ لم يعهده أحد من الناس؟

قال السنّي : إذاً ، فمن أين جاءت تهمة التحريف التي رُمي بها الشيعة؟

قال الشيعي : إنّ نسبة التحريف التي جاء بها أهل الافتراء والكذب على الشيعة ، لا أصل لها في حقيقة الأمر ، كلّ ما يمكنني أنْ أفيدك به في هذا المجال ، هي كلمة قالها الإمام أبو عبد الله جعفر الباقر عن المخالفين لخطّ الإمامة بخصوص القرآن : (وأقاموا حروفه وحرّفوا حدوده)(2) . بمعنى أنّ التحريف لم يقع في لفظ القرآن ، وإنّما وقع في معانيه وتأويله وتفسيره ، والشيعة الاماميّة الاثني

____________

1- الحج(22) : 38 .

2- الكافي ، الكليني 8 : 53 .
الصفحة 63

عشريّة مُبرّؤون من تحريف القرآن لفظاً ومعنى ; لأنّ ما عنيه خامس أئمة أهل البيت(عليهم السلام)غير متعلّق بشيعته ، باعتبار أنّهم ملتزمون بأئمتهم ، علماً وعملا ، وأمراً ونهياً ، طيلة القرون الثلاثة التي وجدوا فيها ، بينما تفرّقت بغيرهم السبل ، واتّبعوا أثر كلّ ناعق ، لذلك أجزم بأنّ مصدر التهمة جاء من أنظمة الحكم التي كانت تعتبر التشيع لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خطراً يُهدّد كيانها ، وينذر بذهاب سلطانها ، فلفّقت لهم عدداً من التهم ، وأحاطتهم بهالة من الإشاعات الكاذبة ، من اجل الحد من إشعاع ذلك البيت الطاهر وتأثر أنصاره في المجتمعات التي يعيشون بينها .

قال السنّي : كيف تريدني أنْ اقتنع برؤيتك التي تدّعي أنّها إسلاميّة ، وكتبك لا أعرف عنها شيئاً ، وهي غير معتمدة عندنا نحنُ أهل السنّة؟

قال الشيعي : أنا لا أريد أنْ ألزمك بما في كتبي فذلك يحتاج إلى مجال وجهد ووقت آخر ، لكنّني ألزمك بما ألزمت به نفسك من كتب نعتموها بالصحاح ، وكتب قدّرتم جهود أصحابها ، فصدح بها أئمة المنابر ، وأخذ منها الباحثون ومؤلفوا الإسلام في الأصول والفروع ، وغياب كتب الشيعة عن الناس لم يكن بسبب أئمة الشيعة ولا أتباعهم ، وإنّما كان السبب فيه الأنظمة التي حكمت رقاب المسلمين بالقهر والحديد والنار ، فلم يُزكّوا غير مواليهم وأتباع سلطانهم ، بينما عُدّ الشيعة من المعارضة ، وطلب رؤساؤهم للقتل أو السجن بسبب ذلك .

فلم أتمالك عندما وصل الحديث عند هذا القول من التدخل فقلت: وأي حجّة أعظم من أنْ تلزمنا بما نحن ملزمون به ، إنّها قمّة الاستدلال ، وغاية إقامة الحجّة ، وهل ترى غير ذلك يا زميلنا العزيز؟

قال السنّي : لا أجد ما أقوله لك بعد الذي قلت ، فهات ما عندك من براهين .

قال الشيعيّ : لسوف أقتصر في البداية على الأحاديث النبوية ; نظراً لكونها المفسّر الأساس للقرآن ، وسأختتم بمتعلقها من الآيات زيادة في إظهار الدليل :

أخرج حفاظ خطّك عدداً من الأحاديث، التي يستشف منها أحقيّةُ عليّ(عليه السلام)في قيادة الأمّة الإسلامية ، منها ما فيه إفادة مباشرة على ذلك ، ومنها ما هو دون ذلك ، لكنّه يتضافر و يقوي ويعاضد جانب الإفادة الأولى .

وتعدّد الأحاديث ، جاء ليكشف عن حرص شديد للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، من أجل بيان مقام أهل بيته(عليهم السلام) ، كمعتصم من بعده للمسلمين ، وقادة يسلكون بهم سبل السلام . فقد أخرج البخاري ومسلم حديث المنزلة ، الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لعلي : “أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي”(1) .

وحديث المنزلة هذا من أحد الحجج على أحقيّة عليّ(عليه السلام) في قيادة الأمّة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، نظراً لأنّ القرآن الكريم قد احتوى على عناصره من خلال سياق الآيات المتعلقة بهارون وموسى(عليهما السلام) ، فقد جاء في سورة طه قوله تعالى : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً}(2) . فلعليّ من خلال هذه الآية : أخوّته من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد تمّت بالمؤاخاة في مكّة والمدينة باتّفاق أهل العلم ، ولو كان لغير عليّ(عليه السلام) من القربة والمكانة ما يمكنه أن يكون أخاً للنبيّ أو خليلا كما يحاول ترويجه الأدعياء ، لما صرف عنه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجهه إلى غيره . ولعليّ(عليه السلام)الوزارة وشدّ الأزر والإشراك في الأمر ، والسيرة شاهدة على ما قدّمه علي(عليه السلام)بالدليل والبرهان وليس بالكذب والبهتان ، وأضغاث الأحلام التي طفحت بها كتب الحديث المسمّاة بالصحاح ، وإذا غاب الأمير حضر الوزير .

وجاء في قوله تعالى : {قَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(3) .

____________

1- اُنظر حديث المنزلة في صحيح البخاري 4 : 208 ، 5 : 29 ، صحيح مسلم 7 : 120 ، وغيرها من المصادر .

2- طه (20) : 29 ـ 35 .

3- الأعراف (7) : 142 .
الصفحة 65

فهذه الآية تؤكّد خلافة عليّ(عليه السلام) لمنصب الحكم الذي كان يشغله النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بحسب الحديث المتقدّم ، لأنّها تؤكّد بأنّ إحدى منازل هارون من موسى هي منزلة الخلافة .

قال الزميل السنّي : لكنّ كبار علماء السنّة قالوا بأنّ خلافة عليّ هي في الأهل وليست في الأمّة ، فالنووي مثلا في شرح صحيح مسلم ، لم يعترف بغير خلافة علي(رضي الله عنه) في أهله دون الأمّة ، وبذلك قال من المتأخرين أبو الأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك .

قال الشيعي : لقد بلغ التقليد الأعمى بأهله إلى التعمية على حديث المنزلة بالادّعاء الباطل بأنّ منزلة علي(عليه السلام) التي أشار إليها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، هي مخصوصة في أهله فقط دون أمتّه ، سعياً من المحرّفين إلى صرف المسلمين عن حقيقة منزلة عليّ(عليه السلام) ، دون إشارة إلى كون المنزلة المشار إليها قد فصلّ القرآن فيها القول بشكل جليّ ، لا يلتبس إلاّ على منافق خبيث الولادة ، فوصاية عليّ(عليه السلام)على أهل بيته ، لا تستوجب ذكراً ، ولا إشارة ، ولا تلميحا من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأنّها من تحصيل حاصل ، ولا تحتاج إلى تأكيد أو توثيق ; لأنّها ممّا لا يمكن عقلا وعرفاً أنْ ينازعه عليها أحد .

إذاً فقوله تعالى : {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} دليل على أنّ خلافة هارون كانت في قومه وهم بنو إسرائيل ، فتكون خلافة علي(عليه السلام) في الأمة الإسلامية ، ولا يحتاج بيانها إلى أكثر من إشارة وتلميح .

قلت وقد صدع تفسير الشيعي الثوابت التي كنت أعتقدها بشأن الخلافة ، وهزّ أسسها هزّاً تهيّأت فيه للتداعي والسقوط ، فليس بعد هذا الدليل حجّة يستطيع منصف ردّها : إذاً فمسألة الخلافة قد حسمها حديث المنزلة ، الذي توضّحت أركانه من خلال آيات القرآن التي بيّنت منزلة هارون من موسى(عليهما السلام) ، وظهرت بذلك منازل علي(عليه السلام)من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسوف لن أكون مفرطاً في اعترافي بحقيقة أنّ علياً(رضي الله عنه) قد ظُلم باغتصاب حقّه في خلافة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونُكبت الأمّة وحرمت من قيادة رشيدة هادية مهديّة اختزلت كلّ قيم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجمعت كافّة الخصائص الممكنة لشخص له أهليّة الحلول محلّ خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم)في قيادة الأمّة الإسلاميّة .

فقال الزميل السنّي : لكن كيف يمكن أنْ يجتمع الصحابة كلّهم رضوان الله عليهم على باطل التنكّر لعليّ(عليه السلام) ، وهم الذين قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : “أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم”(1) ، كما أنّه قال : “إنّ الله لا يجمع أُمّتي ـ أو قال أمّتي محمّد ـ على ضلالة…”(2) .

قال الشيعي : لو تتبّعنا الحقبة التاريخيّة التي سبقت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما تبعها من أحداث كحادثة السقيفة ، فإنّنا نجد أنّ الروايات في معظمها قد دوّنت بأسانيد تضمنت أشخاصاً قد طعن في صدقيتهم ، فكذّب علماء الجرح من كذّبوا منهم وضعّفوا من ضعّفوا ، ومع ذلك مرّت رواياتهم التي كانت في معظمها بعيدة عن حقيقة ما وقع في تلك الفترة ، واعتمدها أكثر رواة التاريخ دون بحث وتمحيص ، ولعل محمّد بن جرير الطبري الذي يُعتبر من أقدم مصادرها ، قد دوّنها في تاريخه ، والفاصل الزمني بينه وبين تلك الأحداث يناهز الثلاثة قرون دون تحقيق ، ولو بذل جهداً بسيطاً في ذلك المجال لردّها كلّها . وسيأتيك أنّ حديث النجوم باطل وموضوع .

أمّا قولك بأنّ الصحابة لا يجتمعون على باطل ، فإنّهم لم يجتمعوا كلّهم على موالاة الخليفة الأوّل ; لأنّ بيعته قد تمّت في غياب كافّة بني هاشم الذين كانوا منشغلين في تجهيز النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، مضافاً إلى ذلك غياب عدد من المهاجرين كالزبير

____________

1- اُنظر الحديث وتخريجاته في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 1 : 144 ، حديث رقم (58) .

2- سنن الترمذي 3 : 315 .

وطلحة وأبي ذر وعمار وآخرون كالمقداد وسلمان .

أمّا ما نسبته إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث بأنّ أصحابه كالنجوم بأيّهم نقتدي نهتدي ، فالحديث مردود من طرف عدد من أرباب علم الحديث عند مذاهبكم ، كابن حزم وابن حنبل وابن عبد البر ، كما حكم الألباني بوضعه(1) ، وفي حقيقة الأمر ، فإنّ الحديث المزعوم لا يستقيم مع القرآن وواقع الصحابة أنفسهم ; لأنّهم كانوا طبقات متفاوتة في التديّن والتقوى ، فهنالك الصحابي المؤمن ، والذي في قلبه مرض ، والمنافق الذي أظهر الولاء وأبطن العداء ، وقد جاء في عدد من الآيات ما يُفنّد عدالتهم جميعاً لاختلافهم مع بعضهم ، وافتراقهم عن بعضهم ، ومحاربتهم بعضهم بعضاً ، ولم تتضمن آية من القرآن ما يفيد عصمتهم حتّى يكون اقتداؤنا بأحدهم هداية ومنجاة ، ناهيك أنّ في القرآن آيات جاءت فاضحة لسرائر وخفايا عدد منهم ، وقد بيّن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث الحوض التي أجمع على إخراجها كبار الحفّاظ ، أنّ عدداً من صحابته سيدخلون النار ، فبطل الاقتداء بهم لانتفاء العصمة وسقوط العدالة عنهم ، ودخول أكثرهم النار ، وسقطت تبعاً لذلك رواية أصحابي كالنجوم ، لعدم ملاءمتها لكلّ ذلك الواقع ، ودخول عدد من الصحابة النار بما اقترفت أيديهم ، ليس أمراً مستحيل الوقوع ; لأنّ الصحابة ليسوا شركاء في نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة ما يفيد براءتهم ونجاتهم من النار يوم القيامة ، هم أناس مكلّفون مثلنا ، جرى عليهم من الأحكام والقضاء والقدر ما جري ويجري على كلّ الأجيال الإسلاميّة ، وكلّ فضل حصّله أحد الصحابة أو اكتسبه فلنفسه وليس لأحد ، رضي الله تعالى في كتابه عن صلحائهم ، ولعن وتوعّد وفضح طلحاءهم ومرضى القلوب منهم .

ثمّ إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن مرجعيّة الأُمّة في حالة الاختلاف في مواطن عديدة

____________

1- اُنظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 : 144 ـ 145 ، حديث رقم (58) .
الصفحة 68

منها ما قاله لعمّار : “يا عمار بن ياسر رأيت عليّاً قد سلك وادياً ، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى”(1) . فتبيّن أنّ حجّة اجتماع الأمّة من دون علي(عليه السلام) لا تدلّ على أنّ الحقّ مع الأمّة ، بينما يدلّ شخص عليّ(عليه السلام) ، ومواقف عليّ(عليه السلام) ، أنّه مع الحق دائماً وأبداً ، ولا أدلُّ على ما أقول من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : “عليّ مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة”(2) وقوله(صلى الله عليه وآله) أيضا : “علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض”(3) .

قال السنّي : فلماذا وقع تقديم الصحابة عند أهل السنّة وتفضيلهم بهذا الشكل؟

قال الشيعي : إنّ الاعتقاد بتفضيل الخلفاء الأوائل على أهل البيت(عليهم السلام) ، لم تكن له صلة بعهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم تظهر محاولة التقديم إلاّ في عهد طلقاء بني أميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وحزبه ، سياسة زرع الباطل ومحاولة إحلاله محل الحقيقة من طرفه وطرف عصابته التي أسّست لفتنة كبرى لا نزال نعاني من آثارها الخطيرة إلى اليوم ، وجاء بنو أميّة من بعده فامضوا خطّته ، وعملوا بمقتضاها ما ناهز الثلاثة أجيال ، فنشأ عليها الصغير وهرم الكبير ، واستقرّت بعد ذلك في عقول الناس ، ومحصّلات أفكارهم ، على أنّها الدين الذي لا تشوبه شائبة ، والعقيدة التي لا يعتريها شك ، وذلك لتثبيت الانحراف عن منهج الإمامة الإلهي ، وإيهام الناس بأنّ تفضيل الصحابة كان على عهد النبيّ مطابقاً لما أفرزه ترتيب الحكومة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والروايات التي أخرجها البخاري وغيره عن ابن عمر مثلا في تقديم الخلفاء الثلاثة وتساوي الناس بعدهما ، وهذا لا يعكس واقع

____________

1- تاريخ بغداد 13 : 188 .

2- المصدر نفسه 14 : 323 ، تاريخ ابن عساكر 42 : 449 .

3- المستدرك على الصحيحين 3 : 124 .
الصفحة 69

الأمر ; لأنّ عليّاً(عليه السلام)شخص لا يمكن أنْ يقدّم عليه أحد سوى النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فضلا عن أن يقدم عليه الخلفاء الثلاثة ، أو أن يساوى مع بقيّة الصحابة ، والذي لم يُنقّب عن خبايا صفحات التاريخ الإسلامي بعد التخلّي عن آليّة التفضيل في تقديم الكتب أيضاً يستطيع أن يجد دلائل كثيرة على أنّ التفضيل الذي تمسّك به المنحرفون عن منهج أهل البيت(عليهم السلام) مفتعل ، ووُضع لأغراض سياسية تعلّقت بنظام الحكم .

قال السنّي : فهل هناك نصوص أخرى ترجّح كفّة علي(رضي الله عنه)في الخلافة على غيره من الصحابة؟

قال الشيعي: النصوص التي تعطي لعليّ(عليه السلام) أحقيّة قيادة الأمّة الإسلاميّة بعد النبيّ كثيرة ، وتصبُّ كلّها في ذلك المعنى الذي تجاهله سواد الأمّة ، وانصرف عنه علماءهم بتأويل النصوص ، وحمله على غير محملها الذي أراده لها الوحي ، وأيده العقل السليم ، ولعلّ أكبر دليل على صحة خطّ اتباع أهل البيت(عليهم السلام) ، والمعروف بالشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، هو استقاءه لإثبات صحّة نهجه ، أدلة قطعيّة من كتب خصومه والمحاربين له ، وفي ذلك حجّة بالغة لمن يعقل أصول الاحتجاج ، ويفهم مبادىء الاستدلال . وحتّى تستطيع مراجعة الحجج التي استدلّ بها الشيعة على إخوانهم السنّة ، اسمح لي أن أقدم إليك كتاب المراجعات ، الذي يعتبر بحقّ نموذج الحوار الصادق ، والتخاطب السليم بين أهل الملّة الواحدة ، والعلم إذا استعمل بنيّة صادقة وعزم خالص ، فإنّ أصحابه سيقفون من خلاله على عين الحقيقة .

أخذتُ منه الكتاب ، وانكببت على دراسته ، ومقارنة النصوص التي تضمنها نصّاً نصّاً ، ولم أنته منه إلاّ وقد أدركت ما أذعنت له همّة الشيخ سليم البشري ، وعرفت أنّ الإسلام المحمّدي الأصيل لا يوجد في أبهى مظاهره إلاّ عند المسلمين الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقررت أنْ أكون شيعيّاً اثني عشريّاً ،
الصفحة 70

ملتزماً بخطّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، الذين اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

والحمد لله على نعمة الهداية إلى صفوة الله تعالى ، من بعد نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونسأله أنْ يجعلنا من أوليائهم في الدنيا والآخرة ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين .

تناقض القائلين بالشورى في الحكم هو الذي شيّعني:

ويقول احد الأصدقاء الذين عرفتهم بعد استقراري بمدينة قابس ، واتّخذته صديقاً بعد أنْ عرفت فيه أكثر من ميزة وخصلة ، لعلّ أهمها على الإطلاق صبره وأناته وامتلاكه لنفسه عند الغضب ، ممّا أعطاه مكانة متميّزة ليس عندي فقط ، بل عند كلّ الناس الذين يزنون الحياة بميزان العقل ، استبصر نتيجة بحوث ومقارنات ، أفضت به إلى معرفة حقيقة الحكومة الإسلاميّة ، وصفتها بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولولا ما ميّز نفسه من تعقّل وصبر وهدوء ، لما أمكنه أنْ يصل إلى معرفة حقيقة نظام الحكم في الإسلام لوحده .

دعوته إلى الحضور ; ليقدّم لنا أطوار تساؤلاته ، ونتائج بحوثه ، بخصوص المسألة التي دفعت به إلى اعتناق إسلام الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقبل الدعوة ، وجاء ملبيّا نداء الواجب ; لعلّه يقدّم جزءاً من الجميل إلى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، على ما قدّموه من أجل هذا الدين الخاتم ، ولمّا جاء دوره في الحديث قال :

منذ أنْ كنت حدثاً ، وفي بداية اعتناقي للإسلام ، راودتني أسئلة عديدة حول الدين ، وما تعلّق به من مسائل مصيريّة وحسّاسة ، لم تدفعني إلى البحث إلاّ بعد أنْ وصلتُ إلى المرحلة الختاميّة من التعليم الثانوي ، بسبب البرنامج الذي خصّص لنا في مادة التربية الإسلاميّة ، والذي تناولت بعض دروسه عصر ما سمّي

 

لصفحة 52

 

 

 

محمّد الرصافي المقداد

(مالكي / تونس)

مرّت ترجمته في (3: 203) من هذه الموسوعة، ونشير هنا إلى ما حصلنا عليه من معلومات لم تُذكر من قبل.

بعد تجلّي الحقائق لـ”محمّد الرصافي” أخذ على عاتقه مهمّة تبينها ونشرها في أقطار العالم من خلال نشر المقالات حول أهم المسائل المطروحة في الساحة العقائدية، وقد أرسل مقالاته إلى مركز الأبحاث العقائدية من أجل طبعها ونشرها.

كما أنّه ألّف العديد من الكتب التي سيطبعها مركز الأبحاث العقائدية قريباً.

من مؤلّفاته:

1 – نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب.

2 – بيّنات من الهدى.

وقفة مع كتابه “بينات من الهدى”:

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات، كتبها المؤلّف في أوقات مختلفة، وبعثها إلى مركز الأبحاث العقائدية من أجل طبعها ونشرها، فقام المركز بمراجعتها وتصحيحها واخراجها في كتاب سماه بيّنات من الهدى.

وتوضّح هذه المقالات عقائد الشيعة وتبيّن معارف أهل البيت(عليهم السلام)، مع

دراسة مقارنة بين عقائد الشيعة وعقائد مذهب أهل السنّة وجاء في بداية هذا الكتاب:

تشكو المجتمعات الإسلامية عموماً من نقيصة سيّئة ظلّت ترافقها منذ زمن طويل، وهي شدّة اهتمامها بالمحسوسات، وإهمالها للغيبيات، وبمعنى أدقّ انجذابها للدنيا وتباعدها عن دينها.

ففي أكثر نواحي حياة أفرادها نجدهم يولون اهتماماً مفرطاً إلى البهرج والزينة، يتحسسون فيهما أنجح الصفقات، وأقوم المكسب، وأجود المتاع، وألذ المأكلّ قد يقضي هؤلاء أكثر أوقاتهم من أجل تحصيل شيء زائل، وفي كسب مطلب لا يستحق كُلّ ذلك الجهد والاهتمام والوقت، لكنّك إذا التفت إلى علاقاتهم بدينهم وأسباب بلوغ رضوان الله تعالى في الآخرة، لا تجد منهم نفس الاهتمام والرغبة واللهفة والجهد، بل لا تكاد تجد شيئاً من ذلك كلّه عند أكثر أفراد الأمة، ولا دليل أسوقه هنا أوضح من انصراف أكثر الصحابة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وهو يخطب في صلاة الجمعة، ليجتمعوا بدحية الكلبي وما أتى به معه من تجارة.

ولئن عبرت تلك الحادثة عن سطحية عقيدة المنفضين عن الله تعالى إلاّ أنّها في نفس الوقت أشارت إلى أنّ الدنيا يبقى لها أثر لا ينمحي من أكثر النفوس حتّى ولو كانت متصلة بأفضل الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويبقى عامل الدنيا هوالمؤثر في عموم الناس، ولكن يمكن تغييره ليكون في صالح الدين…

وهي قلة المطالعة، وانصراف همّة أفرادها عن تحصيل المعلومة، إلى درجة الاتّكال على الغير في أخذها وتلقّفها.

وهذه الظاهرة ليست وليدة العصر الحديث بقدر ما هي قديمة قدم مؤسسيها من القصاصين والوعّاظ والرواة من اليهود، قرّبتهم الأنظمة آنذاك، ووسعت لهم

في مجالسهم ; ككعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، الذين وجدوا أمامهم مجالاً لتمرير افكارهم المسمومة وعقائدهم المحرّفة، ولولا حزب النفاق الذي كان المؤسس الأوّل لوظيفة القاصّ لما كان لهؤلاء وجود داخل منظومتنا الخاتمة، ولا كان لهم أثر سلبي على جانب من الروايات التي تمسّ بجوهر الدين وعقيدته، وكان الوضع الاجتماعي والعلمي للأُمّة في ذلك الوقت دافعاً إلى تلك النتيجة، بحكم قلّة الكتب، وانعدام توفّرها، وتعسّر وصول طالبي العلم إليها، لأنّها نسخ معدودة بعدد أصحابها، الأمر الذي أوجد في أفراد الأُمّة عقليّة التواكل، والعزوف عن تحصيل المعلومة لضنين مواردها، وفسح المجال من جهة أُخرى إلى الطغاة والظالمين ليمرروا سياساتهم الهدّامة، وأفكارهم المريضة إلى عقول الأمّة بعناوين إسلامية.

وعوض أن يتفطن الناس إلى ما دُبّر لهم من تضليل وتجهيل إلتفّوا حول أولئك الذين اشتروا آخرتهم بدنيا زائلة لا محالة، فأعطوهم نوافذ عقولهم وأفئدتهم، وأصغو إليهم بجوارحهم إصغاء الأبله المريض، بينما كان القصاصون من الجهة المقابلة يدسّون السمّ في الدسم، وينشرون ما يقوي الظالمين، ويشدّ أزر سلطانهم، فلم ينتبه إلى الحق إلاّ القليل، ومضى الأمر على ذلك النسق زمن طويلاً،تربّت فيه الأجيال على ثقافة مشوشة بالكذب والبهتان والزور، وجاء عصر التدوين، فكتب حق وباطل، أثبت بعد ذلك، ثُمّ وصف بالصحة، ونودي عليه بالسلامة والنقاوة، وسُمّي سنّة نبويّة، ولو علم الناس انقطاعه عن زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لما أخذوه وعملوا به.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أستحضر مقالة للإمام علي(عليه السلام)، تحدّث فيها عن أصناف رواة السنّة النبويّة المطهّرة استكمالاً للفائدة المرجوّة من وراء ذلك إذ يقول(عليه السلام):

“إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً

وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتّى قام خطيباً فقال: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج، يكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) متعمداً، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، سمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمّ بقوا بعده ـ عليه وآله السلام ـ، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله، فهو أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يديه يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً يأمر به، ثُمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثُمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم الناس إذ سمعوه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاصّ والعامّ فوضع كُلّ شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه…”(1).

____________

1- شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبدة 2: 188 ـ 190.

لقد كان للعامل السياسي في تفشي ظاهرة الكذب في دين الله تعالى الأثر الأكبر، مضافاً إلى ذلك الإجراء الظالم في منع تدوين الأحاديث النبوية، والذي استمر أكثر من قرن ونيف، حتّى إجازة التدوين ـ التي صدرت من عمر بن عبد العزيز، وبوشر العمل بها بعده ـ كانت مقيدة ومخصوصة، بحيث لم تشمل جميع من له صلة بالرواية والفقه، وإنّما تعلّق الأمر بالمقرّبين من البلاط الأموي، بينما أُقصي غيرهم باعتبارهم مناوئين للسلطة.

وإذا نحن استعرضنا من جانب آخر تشجيع الأمويين ـ وعلى رأسهم مؤسّس سلطانهم معاوية بن أبي سفيان الطليق ـ بعض الصحابة كأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وإغرائهم بالأموال والأعمال، للكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، في عصر ما زال التدوين فيه بعيداً عن الحصول، تكونت لدينا فكرة ثابتة وصحيحة، عن الظروف والأوضاع التي مرّت بها السنّة النبوية التي هي بين أيدينا الآن، أخصّ بالذكر منها ما هو متعلق بما يُسمّى بـ(الصحاح) والمسانيد، وبقية الكتب الروائية عند بني مذهبي الذين كنت منهم.

وعلى ذلك حصل لدينا يقين بأنّ الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض لا يمكنه أن لا يكون إلاّ حكيماً دائماً، ومكمّلاً دائماً، ومتمّاً دائما ومحسنا دائماً، فقد جعل لمسألة حفظ دينه بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، مستحفظاً يذب عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو الإمام المبين، ومن عنده علم الكتاب، باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والهادي إلى سبيل الله تعالى من بعده، وثقل القرآن وعدله، الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي لو تأمّلت سيرته، بما فيها من تضحيات في سبيل الحق، وبذل للمهجة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونوره المبين، وتتبعت كلامه الذي قال عنه جهابذة اللغة وأرباب البلاغة: “إنّه دون كلام الله تعالى وفوق كلام البشر”، واستقصيت دعاءه الذي لم

يشهد له الناقلون مثيلاً من حيث العمق المعنوي، والقوّة البلاغيّة، والتناسق الفكري، والبناء العقائدي، ونظرت إلى من كان حوله من أصحابه واتباعه، والتفت إلى من ناوءه وظلَمه وحارَبه وهضم حقه، تأكّدت أنّ الحق أبلج كالنور، وأعلى كالقمم الشماء، فليس بعد الحق إلاّ الضلال المبين.

إنّ الإسلام دين خاتم جاء ليصحح ما حرّف من رسالات سابقة، وليقوّم اعوجاج مسار البشريّة، ويوجهها جميعاً إلى التوحيد الخالص الذي لا شرك فيه، وأعني بذلك فصل الدين عن الحياة، واعتبار أنّ الدين شيء والسياسة شيء آخر.

لقد شرّع المولى تعالى دينه الخاتم ليشكل به خلاصة الرسالات السابقة، فهو مجموعة من الأحكام التي تتعلّق بعلاقة الفرد مع خالقه ومع غيره من البشر والكائنات، وهذه المنظومة تحتاج لاستمرارها إلى أداة تنفيذ وحفظ تكون من جنس التشريع، والقول بغير هذا كلام غير مبني على أساس، ولا يستند على دليل منطقي.

نقطة الخلاف الأساسي بين المسلمين اليوم ـ بصرف النظر عن بعض الخلافات في التوحيد والنبوة ـ هي نظام الحكم في الإسلام، علينا أن نبحث بما توفّر لدينا من نصوص عن أصحاب الرأي الأصح، والحجّة الأقوى ; لنكون معهم يداً واحدة بها يتجدّد الدين، ويقوم أساسه الأول وهو (الإمامة).

عليك أيّها المسلم الرشيد أن تعيد حساباتك جيداً، وتبحث بين ذلك الركام الذي وصلنا عبر قرون طويلة، استطال فيها الظلم والبغي، حتّى أصبح ديناً يتعبّد به الناس، فتخير سبيل الرشاد، واُنظر لنفسك من ستقدم، يوم يدعو الله تعالى كُلّ أناس بإمامهم، وأسأل الله تعالى العون على ذلك، مخلصاً له في كُلّ حركة تقوم بها، وتأكد أنّه لن يتركك سدى.

وقفة مع كتابه “نعم لقد تشيعت وهذا هو السبب”:

يتضمّن هذا الكتاب مجموعة حوارات بعض المستبصرين مع أهل السنّة، منها:

حوار حول أسباب تشيّع هؤلاء:

التقيت بهم على غير موعد ، فقد كانوا تعوّدوا على الالتقاء في مكان واحد ، يتحسّسون فيه الأُلفة والأُنس، وتبادل الراي ، وتمتين رابطة الإخوّة ، وأواصر الصداقة ، في عصر قلّت فيه الإخوّة وهُجرت الصداقة قلوب أغلب الناس ، وانعدم الشعور بالراحة والأُنس والطمأنينة اتجاه الآخر ، ولم يعد للرأي والمشورة نصيب ، حتّى الدين الذي له من القداسة والخشية في القلوب ، لقي من العنت والتطاول ما جعل الجرأة عليه أكثر من أيّ شي آخر ، وقد كان للحكّام العرب على مرّ التاريخ دور كبير في إضعافه ، وتحريف بعض أحكامه وتعطيل البعض الآخر ، وكان الناس في ذلك تبعاً لهم ، إلاّ قليلا من المؤمنين ; لأنّ أغلبية البشر عبيد الدنيا ، وقد قيل : يؤخذ بالسلطان ما لا يؤخذ بالقرآن ، والناس على دين ملوكهم .

إذاً في عصر طغى فيه الاستبداد ، وعمّت الأنانية حتّى ذهبت بفلسفة الخلق وطبيعة النشأة ، فلم يعد يعني لوجود الإنسان الذي كرّمه الله تعالى ، وفضّله على سائر مخلوقاته غير المظاهر المادية ، وعلامات الترف والاستعلاء على الآخرين .

وسط تلك الأجواء كان اللقاء .. وكان التعارف ، من أجل إحياء الروح الإيمانية التي تكاد تتلاشى من مجتمعاتنا الإسلامية ، ومن أجل صياغة الفرد المؤمن ، وبناء علاقة أساسها الحبّ في الله تعالى والبغض في الله ، وما الدين في جوهره وحقيقته إلاّ تولّياً وتبرّياً، ولم توجد على مرّ تاريخ البشريّة نماذج كثيرة من هذه العلاقات ، إذ استثنينا حركة المعصومين في مجتمعاتهم ـ وأعني بهم الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) أو مجالات تحرّك المرجعيات وعلماء الأُمة رضوان الله تعالى عليهم .

وطبيعي في هذه الحالة أن ينتابني شعور من الغبطة والاعتزاز والرضى وأنا أرمق تلك الوجوه المحيطة بي ، قد زانها الله تعالى بنور الإيمان ، وأسبغ عليها من فضله في إدراك ما لم يهتد إليه آخرون .

توجّهت في مفتتح اللقاء بسؤال عام وجّهته للجميع ، ليتحدّثوا عن السبب الذي دفع بهم إلى الخروج عن معتقد المجتمع وموروث الأُسرة ، والانتقال إلى فضاء اعتقادي آخر ، يختلف في بعض تفاصيله ، وكثير من بواطنه عمّا كانوا يتعبّدون به سابقاً ، الغاية واحدة والأسباب كثيرة ، متنوعة بتنوع عقول الناس وأفئدتهم ، والنهج التعبدي الجديد امتلك من قوّة الدليل بحيث تنوّعت وتعدّدت أدلّته على أحقّيته في أن يكون له وحده الحقّ في أن يكون عنوان الإسلام المحمدي الصافي من كلّ الأدران التي أحكمت طوقها وأسرت جمعها ، ورمت بهم إلى الشبهة والظنّ والهوى قامعة إياهم بمقامع الظالمين.

رأيت أن أجعل أسباب تشيّع هذه الثلّة ، موضوع هذه الدراسة لعلّها تكون الدافع القوي لمن لم يطلع على العلل التي دفعت بكثير من المسلمين إلى تحريك عقولهم نحو نور الإيمان الحقّ ، نور محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وفاطمة وعلي والحسن والحسين والأئمة التسعة الأطهار من ذريّة الحسين(عليهم السلام) ، منهم فاضت معالم الدين الحقّ على المؤمنين …

شيّعتني الحجج التي في كتب السنّة المعتمدة:

وكان أحد المستبصرين يدعى حسن قبل أنْ يعتنق خطّ الشيعة الإمامية الاثني عشريّة مثلي ومثل بقيّة الإخوة المؤمنين مالكيّاً أشعريّاً ، لم يكن معتقداً إسلاماً آخر صحيحاً غير الذي كان يعتنقه ، وقد عمّقت قناعاته ما كان يتلقّاه من معلومات عن بقيّة الفرق والمذاهب خلال الدرس في مادة التربية الإسلاميّة ،

والتي كتبت بأقلام جرى فيها حبر التعصّب الأعمى ، وتلوّنت بشتّى الافتراءات والأكاذيب التي لفّقت من أجل إطفاء نور الإسلام الحقّ ، مضافاً إلى التربية التي تلقّاها على ذلك الأساس ، والتي لم تسمح له بالالتفات إلى بقيّة الاتجاهات الإسلاميّة والتمييز بينها .

في إحدى التظاهرات التي كانت تقام هنا وهناك على الساحة التونسيّة ، بمناسبة يوم الأرض ، واليوم العالمي لحقوق الإنسان ، وغيرها من المناسبات التي يتجنّد المثقفون التونسيون لإحيائها داخل أسوار الجامعة ، من أجل الإبقاء على نفس المبادىء ، داخل وجدان الطلائع المؤمنة بها ، التقينا على مائدة الحوار الإسلاميّ ، إسلاميّاً ، باحتشام ومداراة شديدين ، ولولا علاقة الجيرة التي كانت تربطنا ببعض ، لما أمكن لنا أن نلتقي في ذلك الحوار الذي وقف في وجهه قياديّو النهضة ، وشدّدوا على منع عناصرهم من الانخراط فيه ، أو حتّى الاقتراب منه بأيّ شكل من الأشكال .

أتذكر أنّه في تلك الفترة التي بدأت الدعوة إلى التشيّع تظهر على الساحة ، وفي أماكن معدودة ، ومن طرف عناصر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، بدأت قيادات النهضة في ترويج كتب إحسان إلهي ظهير ، التي كان يراد بها تكفير الشيعة ، وإخراجهم عن الإسلام ، وتنفير المسلمين منهم ، في محاولة لنسف أسس الدعوة إلى فكرهم ، وغلق الطرق المؤدية إليهم أمام عناصرها الإسلاميّة ، وذلك لمّا رأوا أنّ أعناق بعض منتسبيها بدأت أياديها تمتدّ إلى كلّ ظاهرة إسلاميّة ، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران .

بحكم تواجدي داخل أسوار الجامعة ، وفي كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ، حضرت في أحد الأيّام مناقشة بين زميلين ، أحدهما شيعيّ وكان داعية إلى التشيّع ، والآخر سنيّ من خطّ النهضة ، وبقدر ما كان النقاش محتدما وحامياً بين الطرفين ، بقدر ما كان غير متكافىء ، وقفت فيه على حقيقة قلبت مجرى اعتقادي

رأساً على عقب .

في البداية كنت مأخوذاً بالتهم التي ساقها السنيّ النهضوي ، ليضع التشيّع بما اشتمل عليه وأهله في موضع المتجنّي على الإسلام ، لكنّني وبمرور الوقت ، بدأت أشعر أنّ هناك منطقاً آخر وحجّة تغازلان عقلي ، وتدفعانه نحو اكتشاف الحقيقة والوقوف عليها .

لم أكن أعلم أنّ الشيعيّ كان من حركة النهضة ، ولما التقى بأحد الدعاة الشيعة اقتنع بالطرح الذي قُدِّم له ، واعتنق الفكر الشيعيّ الاثني عشري ، وطبعاً لم يكن ذلك ممكناً من لقاء واحد ، أو من خلال بحث واحد .

كانت أولى مقالات الزميل السنّي متعلقة بتحريف القرآن ، فقال : إنّ من أقوى البراهين التي استُدلّ بها على بطلان مذهب الشيعة هو قولُهم بتحريف القرآن ، وجلّ علمائهم يدينون بذلك ، وكتبهم ملئى بالروايات التي تقرّ بالتحريف .

فقال الزميل الشيعي : أظنّك قد استقيت ذلك من كتاب إحسان إلهي ظهير “الشيعة والقرآن” ، ومن بعض الأقلام المشبوهة التي لا يعرف لها أصل من فصل ، لأنّني لم أعثر على مفسّر واحد من مفسري الشيعة يعتقد بتحريف القرآن ، ويدين به ، ناهيك أنّه خلاف قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) والقرآن الذي تعرفه وتتلوه وتصلي بسوره وآياته ، ويباع في المكتبات ، ويلقن في الكتاتيب ، هو نفسه القرآن الذي يدين به الشيعة منذ أن وجدوا ، ولم يخرج على الناس مفسر واحد منهم بغير ما هو متعارف عند جميع المسلمين ، ولو كان الأمر كما تدّعي ، لانتهى أمر الشيعة بهذا الادّعاء المنحرف .

قال السنّي : إحسان إلهي ظهير تحدّث عن أكبر حُفّاظ الشيعة ، ورأس رواياتهم الشيخ الكليني ، الذي أخرج عدداً من روايات التحريف .

____________

1- الحجر(15): 9 .

قال الشيعيّ : إنّ الشيخ الكلينيّ أخرج تلك الروايات لسبب واحد ، هو الأمانة العلمية التي حتّمت عليه نقل تلك الروايات ، لكنّه من الجهة الاعتقاديّة لم يكن مطمئنا لها ، فأفرد لها باب في كتابه الكافي سماه باب النوادر ، وقد درج الشيخ الجليل على تخصيص باب للنوادر في كلّ أبواب الفقه ، وهي خاصيّة تميّز بها عن غيره من علماء (السنّة) كالبخاري ومسلم وغيرهما ممّن أخرج روايات التحريف في القرآن ، وأدرجوها في أبواب الفقه دون حيّز ولا فصل ، والاعتقاد بالزيادة أو النقيصة في القرآن اعتقاد واحد ، وأزيدك أكثر ، عندما نرى في عصرنا الحاضر أنّ الله تعالى دافع عن الشيعة في مسألة تحريف القرآن ، وكيف لا يفعل وهو الذي يقول : {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور}(1) فقد ظهر من أبناء الشيعة هذه السنوات أطفال صغار السنّ حفظوا القرآن حفظاً عجيباً لم يأت الزمان بمثله ، فمن إيران الإسلاميّة إلى العراق ، خرج علينا براعم في عمر الزهور ذكوراً وإناثاً بعجيب حفظ ، أذهل العقول وأثار الغرابة ، وألقم الذين نسبوا إلى الشيعة تحريف القرآن حجراً لو كانوا يعقلون ، فإذا كان الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن فلماذا يتعهدونه ويحفظونه لناشئتهم؟ ولماذا يزيدهم الله تعالى من فضل رحمته بحفظ لم يعهده أحد من الناس؟

قال السنّي : إذاً ، فمن أين جاءت تهمة التحريف التي رُمي بها الشيعة؟

قال الشيعي : إنّ نسبة التحريف التي جاء بها أهل الافتراء والكذب على الشيعة ، لا أصل لها في حقيقة الأمر ، كلّ ما يمكنني أنْ أفيدك به في هذا المجال ، هي كلمة قالها الإمام أبو عبد الله جعفر الباقر عن المخالفين لخطّ الإمامة بخصوص القرآن : (وأقاموا حروفه وحرّفوا حدوده)(2) . بمعنى أنّ التحريف لم يقع في لفظ القرآن ، وإنّما وقع في معانيه وتأويله وتفسيره ، والشيعة الاماميّة الاثني

____________

1- الحج(22) : 38 .

2- الكافي ، الكليني 8 : 53 .

عشريّة مُبرّؤون من تحريف القرآن لفظاً ومعنى ; لأنّ ما عنيه خامس أئمة أهل البيت(عليهم السلام)غير متعلّق بشيعته ، باعتبار أنّهم ملتزمون بأئمتهم ، علماً وعملا ، وأمراً ونهياً ، طيلة القرون الثلاثة التي وجدوا فيها ، بينما تفرّقت بغيرهم السبل ، واتّبعوا أثر كلّ ناعق ، لذلك أجزم بأنّ مصدر التهمة جاء من أنظمة الحكم التي كانت تعتبر التشيع لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خطراً يُهدّد كيانها ، وينذر بذهاب سلطانها ، فلفّقت لهم عدداً من التهم ، وأحاطتهم بهالة من الإشاعات الكاذبة ، من اجل الحد من إشعاع ذلك البيت الطاهر وتأثر أنصاره في المجتمعات التي يعيشون بينها .

قال السنّي : كيف تريدني أنْ اقتنع برؤيتك التي تدّعي أنّها إسلاميّة ، وكتبك لا أعرف عنها شيئاً ، وهي غير معتمدة عندنا نحنُ أهل السنّة؟

قال الشيعي : أنا لا أريد أنْ ألزمك بما في كتبي فذلك يحتاج إلى مجال وجهد ووقت آخر ، لكنّني ألزمك بما ألزمت به نفسك من كتب نعتموها بالصحاح ، وكتب قدّرتم جهود أصحابها ، فصدح بها أئمة المنابر ، وأخذ منها الباحثون ومؤلفوا الإسلام في الأصول والفروع ، وغياب كتب الشيعة عن الناس لم يكن بسبب أئمة الشيعة ولا أتباعهم ، وإنّما كان السبب فيه الأنظمة التي حكمت رقاب المسلمين بالقهر والحديد والنار ، فلم يُزكّوا غير مواليهم وأتباع سلطانهم ، بينما عُدّ الشيعة من المعارضة ، وطلب رؤساؤهم للقتل أو السجن بسبب ذلك .

فلم أتمالك عندما وصل الحديث عند هذا القول من التدخل فقلت: وأي حجّة أعظم من أنْ تلزمنا بما نحن ملزمون به ، إنّها قمّة الاستدلال ، وغاية إقامة الحجّة ، وهل ترى غير ذلك يا زميلنا العزيز؟

قال السنّي : لا أجد ما أقوله لك بعد الذي قلت ، فهات ما عندك من براهين .

قال الشيعيّ : لسوف أقتصر في البداية على الأحاديث النبوية ; نظراً لكونها المفسّر الأساس للقرآن ، وسأختتم بمتعلقها من الآيات زيادة في إظهار الدليل :

أخرج حفاظ خطّك عدداً من الأحاديث، التي يستشف منها أحقيّةُ عليّ(عليه السلام)في قيادة الأمّة الإسلامية ، منها ما فيه إفادة مباشرة على ذلك ، ومنها ما هو دون ذلك ، لكنّه يتضافر و يقوي ويعاضد جانب الإفادة الأولى .

وتعدّد الأحاديث ، جاء ليكشف عن حرص شديد للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، من أجل بيان مقام أهل بيته(عليهم السلام) ، كمعتصم من بعده للمسلمين ، وقادة يسلكون بهم سبل السلام . فقد أخرج البخاري ومسلم حديث المنزلة ، الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لعلي : “أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي”(1) .

وحديث المنزلة هذا من أحد الحجج على أحقيّة عليّ(عليه السلام) في قيادة الأمّة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، نظراً لأنّ القرآن الكريم قد احتوى على عناصره من خلال سياق الآيات المتعلقة بهارون وموسى(عليهما السلام) ، فقد جاء في سورة طه قوله تعالى : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً}(2) . فلعليّ من خلال هذه الآية : أخوّته من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد تمّت بالمؤاخاة في مكّة والمدينة باتّفاق أهل العلم ، ولو كان لغير عليّ(عليه السلام) من القربة والمكانة ما يمكنه أن يكون أخاً للنبيّ أو خليلا كما يحاول ترويجه الأدعياء ، لما صرف عنه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجهه إلى غيره . ولعليّ(عليه السلام)الوزارة وشدّ الأزر والإشراك في الأمر ، والسيرة شاهدة على ما قدّمه علي(عليه السلام)بالدليل والبرهان وليس بالكذب والبهتان ، وأضغاث الأحلام التي طفحت بها كتب الحديث المسمّاة بالصحاح ، وإذا غاب الأمير حضر الوزير .

وجاء في قوله تعالى : {قَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(3) .

____________

1- اُنظر حديث المنزلة في صحيح البخاري 4 : 208 ، 5 : 29 ، صحيح مسلم 7 : 120 ، وغيرها من المصادر .

2- طه (20) : 29 ـ 35 .

3- الأعراف (7) : 142 .

فهذه الآية تؤكّد خلافة عليّ(عليه السلام) لمنصب الحكم الذي كان يشغله النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بحسب الحديث المتقدّم ، لأنّها تؤكّد بأنّ إحدى منازل هارون من موسى هي منزلة الخلافة .

قال الزميل السنّي : لكنّ كبار علماء السنّة قالوا بأنّ خلافة عليّ هي في الأهل وليست في الأمّة ، فالنووي مثلا في شرح صحيح مسلم ، لم يعترف بغير خلافة علي(رضي الله عنه) في أهله دون الأمّة ، وبذلك قال من المتأخرين أبو الأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك .

قال الشيعي : لقد بلغ التقليد الأعمى بأهله إلى التعمية على حديث المنزلة بالادّعاء الباطل بأنّ منزلة علي(عليه السلام) التي أشار إليها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، هي مخصوصة في أهله فقط دون أمتّه ، سعياً من المحرّفين إلى صرف المسلمين عن حقيقة منزلة عليّ(عليه السلام) ، دون إشارة إلى كون المنزلة المشار إليها قد فصلّ القرآن فيها القول بشكل جليّ ، لا يلتبس إلاّ على منافق خبيث الولادة ، فوصاية عليّ(عليه السلام)على أهل بيته ، لا تستوجب ذكراً ، ولا إشارة ، ولا تلميحا من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأنّها من تحصيل حاصل ، ولا تحتاج إلى تأكيد أو توثيق ; لأنّها ممّا لا يمكن عقلا وعرفاً أنْ ينازعه عليها أحد .

إذاً فقوله تعالى : {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} دليل على أنّ خلافة هارون كانت في قومه وهم بنو إسرائيل ، فتكون خلافة علي(عليه السلام) في الأمة الإسلامية ، ولا يحتاج بيانها إلى أكثر من إشارة وتلميح .

قلت وقد صدع تفسير الشيعي الثوابت التي كنت أعتقدها بشأن الخلافة ، وهزّ أسسها هزّاً تهيّأت فيه للتداعي والسقوط ، فليس بعد هذا الدليل حجّة يستطيع منصف ردّها : إذاً فمسألة الخلافة قد حسمها حديث المنزلة ، الذي توضّحت أركانه من خلال آيات القرآن التي بيّنت منزلة هارون من موسى(عليهما السلام) ، وظهرت بذلك منازل علي(عليه السلام)من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسوف لن أكون مفرطاً في اعترافي

بحقيقة أنّ علياً(رضي الله عنه) قد ظُلم باغتصاب حقّه في خلافة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونُكبت الأمّة وحرمت من قيادة رشيدة هادية مهديّة اختزلت كلّ قيم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجمعت كافّة الخصائص الممكنة لشخص له أهليّة الحلول محلّ خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم)في قيادة الأمّة الإسلاميّة .

فقال الزميل السنّي : لكن كيف يمكن أنْ يجتمع الصحابة كلّهم رضوان الله عليهم على باطل التنكّر لعليّ(عليه السلام) ، وهم الذين قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : “أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم”(1) ، كما أنّه قال : “إنّ الله لا يجمع أُمّتي ـ أو قال أمّتي محمّد ـ على ضلالة…”(2) .

قال الشيعي : لو تتبّعنا الحقبة التاريخيّة التي سبقت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما تبعها من أحداث كحادثة السقيفة ، فإنّنا نجد أنّ الروايات في معظمها قد دوّنت بأسانيد تضمنت أشخاصاً قد طعن في صدقيتهم ، فكذّب علماء الجرح من كذّبوا منهم وضعّفوا من ضعّفوا ، ومع ذلك مرّت رواياتهم التي كانت في معظمها بعيدة عن حقيقة ما وقع في تلك الفترة ، واعتمدها أكثر رواة التاريخ دون بحث وتمحيص ، ولعل محمّد بن جرير الطبري الذي يُعتبر من أقدم مصادرها ، قد دوّنها في تاريخه ، والفاصل الزمني بينه وبين تلك الأحداث يناهز الثلاثة قرون دون تحقيق ، ولو بذل جهداً بسيطاً في ذلك المجال لردّها كلّها . وسيأتيك أنّ حديث النجوم باطل وموضوع .

أمّا قولك بأنّ الصحابة لا يجتمعون على باطل ، فإنّهم لم يجتمعوا كلّهم على موالاة الخليفة الأوّل ; لأنّ بيعته قد تمّت في غياب كافّة بني هاشم الذين كانوا منشغلين في تجهيز النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، مضافاً إلى ذلك غياب عدد من المهاجرين كالزبير

____________

1- اُنظر الحديث وتخريجاته في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 1 : 144 ، حديث رقم (58) .

2- سنن الترمذي 3 : 315 .

وطلحة وأبي ذر وعمار وآخرون كالمقداد وسلمان .

أمّا ما نسبته إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث بأنّ أصحابه كالنجوم بأيّهم نقتدي نهتدي ، فالحديث مردود من طرف عدد من أرباب علم الحديث عند مذاهبكم ، كابن حزم وابن حنبل وابن عبد البر ، كما حكم الألباني بوضعه(1) ، وفي حقيقة الأمر ، فإنّ الحديث المزعوم لا يستقيم مع القرآن وواقع الصحابة أنفسهم ; لأنّهم كانوا طبقات متفاوتة في التديّن والتقوى ، فهنالك الصحابي المؤمن ، والذي في قلبه مرض ، والمنافق الذي أظهر الولاء وأبطن العداء ، وقد جاء في عدد من الآيات ما يُفنّد عدالتهم جميعاً لاختلافهم مع بعضهم ، وافتراقهم عن بعضهم ، ومحاربتهم بعضهم بعضاً ، ولم تتضمن آية من القرآن ما يفيد عصمتهم حتّى يكون اقتداؤنا بأحدهم هداية ومنجاة ، ناهيك أنّ في القرآن آيات جاءت فاضحة لسرائر وخفايا عدد منهم ، وقد بيّن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث الحوض التي أجمع على إخراجها كبار الحفّاظ ، أنّ عدداً من صحابته سيدخلون النار ، فبطل الاقتداء بهم لانتفاء العصمة وسقوط العدالة عنهم ، ودخول أكثرهم النار ، وسقطت تبعاً لذلك رواية أصحابي كالنجوم ، لعدم ملاءمتها لكلّ ذلك الواقع ، ودخول عدد من الصحابة النار بما اقترفت أيديهم ، ليس أمراً مستحيل الوقوع ; لأنّ الصحابة ليسوا شركاء في نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة ما يفيد براءتهم ونجاتهم من النار يوم القيامة ، هم أناس مكلّفون مثلنا ، جرى عليهم من الأحكام والقضاء والقدر ما جري ويجري على كلّ الأجيال الإسلاميّة ، وكلّ فضل حصّله أحد الصحابة أو اكتسبه فلنفسه وليس لأحد ، رضي الله تعالى في كتابه عن صلحائهم ، ولعن وتوعّد وفضح طلحاءهم ومرضى القلوب منهم .

ثمّ إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن مرجعيّة الأُمّة في حالة الاختلاف في مواطن عديدة

____________

1- اُنظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 : 144 ـ 145 ، حديث رقم (58) .

منها ما قاله لعمّار : “يا عمار بن ياسر رأيت عليّاً قد سلك وادياً ، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى”(1) . فتبيّن أنّ حجّة اجتماع الأمّة من دون علي(عليه السلام) لا تدلّ على أنّ الحقّ مع الأمّة ، بينما يدلّ شخص عليّ(عليه السلام) ، ومواقف عليّ(عليه السلام) ، أنّه مع الحق دائماً وأبداً ، ولا أدلُّ على ما أقول من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : “عليّ مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة”(2) وقوله(صلى الله عليه وآله) أيضا : “علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض”(3) .

قال السنّي : فلماذا وقع تقديم الصحابة عند أهل السنّة وتفضيلهم بهذا الشكل؟

قال الشيعي : إنّ الاعتقاد بتفضيل الخلفاء الأوائل على أهل البيت(عليهم السلام) ، لم تكن له صلة بعهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم تظهر محاولة التقديم إلاّ في عهد طلقاء بني أميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وحزبه ، سياسة زرع الباطل ومحاولة إحلاله محل الحقيقة من طرفه وطرف عصابته التي أسّست لفتنة كبرى لا نزال نعاني من آثارها الخطيرة إلى اليوم ، وجاء بنو أميّة من بعده فامضوا خطّته ، وعملوا بمقتضاها ما ناهز الثلاثة أجيال ، فنشأ عليها الصغير وهرم الكبير ، واستقرّت بعد ذلك في عقول الناس ، ومحصّلات أفكارهم ، على أنّها الدين الذي لا تشوبه شائبة ، والعقيدة التي لا يعتريها شك ، وذلك لتثبيت الانحراف عن منهج الإمامة الإلهي ، وإيهام الناس بأنّ تفضيل الصحابة كان على عهد النبيّ مطابقاً لما أفرزه ترتيب الحكومة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والروايات التي أخرجها البخاري وغيره عن ابن عمر مثلا في تقديم الخلفاء الثلاثة وتساوي الناس بعدهما ، وهذا لا يعكس واقع

____________

1- تاريخ بغداد 13 : 188 .

2- المصدر نفسه 14 : 323 ، تاريخ ابن عساكر 42 : 449 .

3- المستدرك على الصحيحين 3 : 124 .

الأمر ; لأنّ عليّاً(عليه السلام)شخص لا يمكن أنْ يقدّم عليه أحد سوى النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فضلا عن أن يقدم عليه الخلفاء الثلاثة ، أو أن يساوى مع بقيّة الصحابة ، والذي لم يُنقّب عن خبايا صفحات التاريخ الإسلامي بعد التخلّي عن آليّة التفضيل في تقديم الكتب أيضاً يستطيع أن يجد دلائل كثيرة على أنّ التفضيل الذي تمسّك به المنحرفون عن منهج أهل البيت(عليهم السلام) مفتعل ، ووُضع لأغراض سياسية تعلّقت بنظام الحكم .

قال السنّي : فهل هناك نصوص أخرى ترجّح كفّة علي(رضي الله عنه)في الخلافة على غيره من الصحابة؟

قال الشيعي: النصوص التي تعطي لعليّ(عليه السلام) أحقيّة قيادة الأمّة الإسلاميّة بعد النبيّ كثيرة ، وتصبُّ كلّها في ذلك المعنى الذي تجاهله سواد الأمّة ، وانصرف عنه علماءهم بتأويل النصوص ، وحمله على غير محملها الذي أراده لها الوحي ، وأيده العقل السليم ، ولعلّ أكبر دليل على صحة خطّ اتباع أهل البيت(عليهم السلام) ، والمعروف بالشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، هو استقاءه لإثبات صحّة نهجه ، أدلة قطعيّة من كتب خصومه والمحاربين له ، وفي ذلك حجّة بالغة لمن يعقل أصول الاحتجاج ، ويفهم مبادىء الاستدلال . وحتّى تستطيع مراجعة الحجج التي استدلّ بها الشيعة على إخوانهم السنّة ، اسمح لي أن أقدم إليك كتاب المراجعات ، الذي يعتبر بحقّ نموذج الحوار الصادق ، والتخاطب السليم بين أهل الملّة الواحدة ، والعلم إذا استعمل بنيّة صادقة وعزم خالص ، فإنّ أصحابه سيقفون من خلاله على عين الحقيقة .

أخذتُ منه الكتاب ، وانكببت على دراسته ، ومقارنة النصوص التي تضمنها نصّاً نصّاً ، ولم أنته منه إلاّ وقد أدركت ما أذعنت له همّة الشيخ سليم البشري ، وعرفت أنّ الإسلام المحمّدي الأصيل لا يوجد في أبهى مظاهره إلاّ عند المسلمين الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقررت أنْ أكون شيعيّاً اثني عشريّاً ،

ملتزماً بخطّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، الذين اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

والحمد لله على نعمة الهداية إلى صفوة الله تعالى ، من بعد نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونسأله أنْ يجعلنا من أوليائهم في الدنيا والآخرة ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين .

تناقض القائلين بالشورى في الحكم هو الذي شيّعني:

ويقول احد الأصدقاء الذين عرفتهم بعد استقراري بمدينة قابس ، واتّخذته صديقاً بعد أنْ عرفت فيه أكثر من ميزة وخصلة ، لعلّ أهمها على الإطلاق صبره وأناته وامتلاكه لنفسه عند الغضب ، ممّا أعطاه مكانة متميّزة ليس عندي فقط ، بل عند كلّ الناس الذين يزنون الحياة بميزان العقل ، استبصر نتيجة بحوث ومقارنات ، أفضت به إلى معرفة حقيقة الحكومة الإسلاميّة ، وصفتها بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولولا ما ميّز نفسه من تعقّل وصبر وهدوء ، لما أمكنه أنْ يصل إلى معرفة حقيقة نظام الحكم في الإسلام لوحده .

دعوته إلى الحضور ; ليقدّم لنا أطوار تساؤلاته ، ونتائج بحوثه ، بخصوص المسألة التي دفعت به إلى اعتناق إسلام الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقبل الدعوة ، وجاء ملبيّا نداء الواجب ; لعلّه يقدّم جزءاً من الجميل إلى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، على ما قدّموه من أجل هذا الدين الخاتم ، ولمّا جاء دوره في الحديث قال :

منذ أنْ كنت حدثاً ، وفي بداية اعتناقي للإسلام ، راودتني أسئلة عديدة حول الدين ، وما تعلّق به من مسائل مصيريّة وحسّاسة ، لم تدفعني إلى البحث إلاّ بعد أنْ وصلتُ إلى المرحلة الختاميّة من التعليم الثانوي ، بسبب البرنامج الذي خصّص لنا في مادة التربية الإسلاميّة ، والذي تناولت بعض دروسه عصر ما سمّي

بالخلافة الراشدة ، وكان الدرس الأول متضمنا فترة وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وحادثة السقيفة ، وقد خلص الدرس ، وانتهت مداخلة الأستاذ تعقيباً على ذلك ، إلى اعتبار أنّ الإسلام لم يأخذ مسألة الحكومة بعين الاعتبار ، لا من حيث مبدأ التعيين ، ولا من حيث شروط الاختيار ، وقد ترك أمرها للناس شورى بدليل قوله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(1) وقوله أيضا : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ}(2) .

لكنّ عقلي رفض أنْ يتقبّل فكرة الأستاذ ، في ترك مسألة الحكومة الإسلاميّة للناس ، فرفعت يدي إليه ، ولمّا أذن لي في الكلام قلت له : إذاً ، يمكن القول بأنّ الدين الإسلاميّ ، لا يملك في منظومته التي صرّح الوحي بتمامها وكمالها ، في قوله تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}(3) وقوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء}(4) نظاماً للحكم فيه؟ ممّا يعتبر متناقضاً مع البيان الذي صرّحت به الآيتان .

فردّ علي الأستاذ قائلا : للأسف الشديد أن الاعتقاد بفصل الدين عن أداة الحكم ، يتناقض مع تمام الدين وكماله وشموليّته ، إلاّ أنّنا عندما نتناول بالقراءة والتحليل مرحلة ما بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، نجد أنّه لم يثبُت نصّ واضح وصريح تعلّق بنظام الحكم في الإسلام ، سوى ما جاء من تطبيق لمبدأ الشورى ، مُجسّداً في حادثة سقيفة بني ساعدة ، والتي انبنى على أساسها نظام الخلافة الإسلاميّة .

قلت : ألاّ ترى أن هذه القراءة قد تأسّست على نمط تبريري لأحداث قد وقعت ، ونُظر إليها على أساس أنّها انعكاس صحيح لمفهوم الحكومة الإسلاميّة؟

قال : هذا ممّا أوحت به الأحداث التي أعقبت وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والتي لم

____________

1- الشورى (42) :38 .

2- آل عمران (3) : 159 .

3- الأنعام (6) : 38 .

4- النحل (16) : 89 .

تترك مجالا للقول بأنّ التشريع قد ترك نظام حكم إسلامي واضح المعالم ، وفي غياب الأدلة الواضحة على نمط الحكومة الإسلاميّة ، اُعتمد على اجتهادات السلف الصالح للأمّة على أساس سلامة مرجعيّته في ذلك المجال .

قلت : إذاً ، فنظام الحكم في الإسلام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن واضحا لدى الأمّة ؟

قال : نعم ، في ما عدا الأساس الشوروي الذي أكّده القرآن الكريم ، وعفي عن كيفيته ومداه وطريقة إقامته .

قلت : إذاً ، عدنا إلى مبدأ الشورى من حيث كونه نظاما عامّاً للحكم في الإسلام ، فإنّنا نجد أن الشورى لا يمكنها أن تشمل التشريع الإلهي ; لأنّها أحكام غير قابلة للأخذ والرد ، فأين ترى يمكن تطبيق هذا المبدأ؟

قال : في مسألة اختيار وليّ أمور المسلمين مثلا .

قلت : فهل وقع تطبيق مبدأ الشورى على حقيقته في هذا المنصب؟

قال : نعم ، ولكن بضرب من النسبيّة ، إذا نحن أخذنا شورى سقيفة بني ساعدة ، وباعتبار أنّ المدينة تعتبر عاصمة المسلمين ، ومركزهم السياسي ، وثقلهم الاجتماعي والاقتصادي والعسكري ، فإنّ سكّانها يعتبرون أهل الحلّ والعقد ، وقراراتهم غير قابلة للرّد أو الرفض .

قلت : طالما أنّ الشورى هي الوسيلة الوحيدة لاختيار وليّ أمر المسلمين وحاكمهم ، فلماذا وقع التخلّي عنها سريعا ؟

قال : وكيف ذلك ؟

قلت : عندما مات أبو بكر أوصى إلى عمر بن الخطاب ، وكان الكاتب للوصيّة عثمان بن عفان .

قال : لكنّ هنالك رواية تقول : إنّ الخليفة الأول قد أجرى مشورة حول من

يكون أهلا للحكم بعده ، فوجد أكثر الصحابة ميلا إلى عمر .

قلت : وعلى افتراض أنّ الصحابة كانوا بذلك الميل ، فلماذا لا يتركهم يُتمّمون رغبتهم وحدهم ، ويختارون بأنفسهم بعد موته ، طالما أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يختر في حياته أحداً؟ ولماذا تحسّر عمر على فقد صاحب السقيفة الثالث ، أبو عبيدة بن الجراح ، ولو بقيَ حيّا لولاّه؟(1) ولماذا تحسّر بعد ذلك على فقد سالم مولى أبي حذيفة ، الذي كان الساعي لهم بالأخبار من داخل المدينة ، ولو كان حيّاً لولاّه؟ ولماذا ضيّق عمر الشورى إلى ستّة أشخاص ، وجعل عبد الرحمان بن عوف الفيصل في اختيار الخليفة؟(2)

قال : كلّ ذلك أوجده الحرص على سلامة الدولة الفتيّة من أطماع الأعداء ، وكانت تلك اجتهادات مأجورة من قبل أناس هم أهل للاجتهاد .

قلت : فهل كان هؤلاء أحرص من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال : بل إنّ اجتهادهم هو نابع من التربيّة التي ربّاهم عليها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

قلت : وهل يوجد تصوّر آخر لنظام الحكم في الإسلام بخلاف هذا التصوّر؟

قال : يوجد تصوّر آخر خلاف ما نعتقده نحن أهل السنّة والجماعة ، وهو عقيدة الشيعة في النصّ على إمامة عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) والأئمّة من ولده ، وهؤلاء يبنون تصوّرهم على نصوص رأوا فيها بيانا واضحاً يؤكّد عندهم على إمامة أهل البيت رضي الله عنهم .

قلت : وهل انفردت تلك الطائفة بنصوصها وبتأويل تلك النصوص؟

قال : لا ، فكلّ ما استدلّوا به من نصوص موجودة عندنا ، وهي مدوّنة في

____________

1- اُنظر تاريخ المدينة لابن شبة 3 : 922 ، تاريخ الطبري 3 : 292، الكامل في التاريخ 3 : 65 .

2- اُنظر على سبيل المثال تاريخ الطبري 3 : 292 ـ 293 ، الكامل في التاريخ 3 : 65 ـ 66 والمسألة محلّ إجماع لا خلاف فيها .

أُمّهات كتبنا المعتمدة ، أكثرها صحيح من طرقنا ، وأسانيد رواتنا .

قلت : طالما أنّ النصوص مشتركة النقل ، فلماذا اختلف في مقاصدها ومعانيها؟

قال : بسبب التأويل الذي سلكه العلماء ، في تحديد معاني المفردات التي وردت في أحاديث النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

قلت : ولم يكن هناك سبب آخر أسهم في خلق ضبابيّة حالت دون بلوغ مقاصد تلك الأحاديث؟

قال : ربّما تأخّر تدوين أحاديث النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، هو الذي أسهم بشكل كبير في خلق حالة من سوء الفهم والتأويل الخاطىء لبعض المصطلحات التي تكلّم بها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

إلى هنا انتهى حديث الأستاذ ، ومنه انطلقت في أفق السنّة النبويّة ، والتاريخ ، والسيرة ، أبحث عن قرينة تمكّنني من التعرّف على نظام الحكم الإسلامي الصحيح ، وكان عَلَيّ أوّلا أنْ أتعرّف على تفاصيل السيرة النبويّة العطرة ، لكنّني اصطدمت منذ الخطوة الأولى بعائق كبير ، تمثّل في طعن الرواة والحفّاظ بعضهم بعضاً ، الأمر الذي دفع المحقّقين إلى التشكيك في صدقيّة أكثر الحفّاظ ، للدور الكبير الذي لعبه سلاطينهم ، في إذكاء روح التفرقة وغرس أسباب الفتنة بين المسلمين ، و في إجبار عدد كبير من علماء السلطان على تجاهل عدد من الحقائق ، أو توهينها ، والسكوت عنها ، ومن بين تلك الحقائق ، حادثة هامّة ومصيريّة إن صحّ وقوعها ، فإنّها قد تعصف بكلّ البناء الذي أسّسه الاتجاه الشوروي في الحكم بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، الحادثة كما أُخبر عنها ، تمثّلت في أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بتجهيز جيش من الصحابة لمحاربة الروم ، وقد عقد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، بيديه الشريفتين لواء تلك السريّة ، وأمّر عليها أسامة بن زيد ، وأشرك فيها – كما

نصّ على ذلك أغلب أصحاب السيرة والتاريخ – وجوه الصحابة منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم .

لم أجد خلافاً حول بعث أسامة بن زيد في التواريخ والسير ، ولا وجدت عدم توافق في أسماء الذين ذكروا في ذلك التجهيز ، الخلاف الوحيد الذي نشأ تمثّل في اختلاف المحدثين عن ردّة فعل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)حيال ذلك التمرّد والتقاعس على تأميره لأسامة ، هل لعن المتخلّف عن الجيش ، أو لم يلعنه؟(1)

ومهما يكن من أمر ذلك اللعن بالنسبة لي ، سواء صدر أم لم يصدر ، فإنّ مجرد الوقوع في معصية النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تستوجب اللعن والبراءة ، والنعت بالضلال ، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا مُبِيناً}(2) فقد وقفت على حقيقة وقوع ذلك التعيين ، وقلت في نفسي ، بعد أن وجدت أمامي ازدواجية في تواجد عدد من الصحابة المعيّنين من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في جيش أسامة ، الذين يفترض أن يكونوا خارج المدينة بالجرف ، حيث عسكر أسامة بجيشه ليستكمل عدّته وعدده ، غير أنّ الحاصل خلاف ذلك ، فكان عمر يتوسط جماعة من الصحابة في حجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى مرأى ومسمع منه ، يتصدّى لأمره في كتابة وصيّته ، ويتقوّل عليه بالهذيان ، ويتهمه بالهجر(3) ، وإذا بأبي بكر في المسجد يصلّي بالناس ، فهل استثناهما النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك الجيش؟ أو أنّ في الأمر سرّاً مخفيّاً آخر؟

____________

1- وممّن ذكر اللعن وأقرّ به ، الشهرستاني في الملل والنحل 1 : 23 ، والآمدي على ما نقله الأيجي في المواقف 3 : 649 ـ 650 ، وراجع بعث جيش أسامة في صحيح البخاري 4 : 213 ، 5: 84 ، صحيح مسلم 7 : 131 ، الطبقات الكبرى لابن سعد 2 : 249 ، 190 ، تاريخ الطبري 2 : 249 ، الكامل في التاريخ 2 : 317 . فتح الباري 8 : 815 عمدة القاري 18 : 76 ، شرح نهج البلاغة 6 : 52 .

2- الأحزاب (33) : 36 .

3- وذلك في رزيّة الخميس المشهورة ، وقد تقدّمت في حلقة سابقة .

ولمّا لم يذكر المؤرخون لذلك الاستثناء أصلا ، وظهر ما يدعو إلى القول بافتعال أبي بكر ومن كان معه الصلاة بالناس ، لبلوغ غاية ما ، فقد ظهرت بعض الروايات تنوء بتحريف عجيب ، وتحكي حالة فريدة من نوعها في صلاة الجماعة ، في محاولة للتعمية على حقيقة تنحية أبي بكر عن إمامة الصلاة ، فقالوا : صلّى أبو بكر مقتدياً بالنبيّ ، وصلى الناس مؤتمين بأبي بكر(1) ، فلم أتقبل رواية الصلاة بإمامين ، كما لم يقبل عقلي أن يقتدي الناس بأبي بكر ، ويتركون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، في حين أنّ الحقيقة المطموسة تقول : لقد وقعت تنحية أبي بكر عن إمامة الصلاة بالناس ، في وقت ظنّ هو وجماعته أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لم يعد باستطاعته أنْ يستفيق من إغمائه ، ولا أنْ يعي بما يدور حوله ، فيكون ذلك التقديم وتلك الإمامة ، مبرراً على طريق استلام الحكم ، وحجّة تمكنه من الادّعاء بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة بالناس .

كما ظهر من خلال تتبّعي لسيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في تعامله مع إمامة الصلاة ، أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن يُعيّن أحداً يُصلّي بالناس في غيابه ، وقد كانت كلمته دائما : “مروا مَنْ يُصلّي بالناس”(2) وذلك بناء على قاعدة الأعلميّة والتفقّه ، وليس على القاعدة التي اعتمدها أهل الجاهليّة في تنصيب زعمائهم ، وهي اعتبار كبر السن والمكانة الاجتماعيّة والماليّة ، مع أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)في حياته الشريفة كان ملتفتاً إلى مسألة الإمارة في غيبته عن المدينة ، فأهميّتها كمنصب حسّاس وخطير ، كانت تحتّم عليه تنصيب من يخلفه عليها في غزواته وسفراته ، فعيّن فيمن عيّن عليّاً ، ولم يعيّن أحداً من الذين تولّوا الحكم قبله ، وذلك يدلّ على استحقاقه للإمارة قبل هؤلاء جميعاً .

____________

1- صحيح البخاري 1 : 162 ، سنن ابن ماجة 1 : 391 .

2- اُنظر مسند أحمد 4 : 322 ، لكن كالعادة فإن الرواية طعمت بما يخالف ذلك فصورت استياء شديد من النبي(صلى الله عليه وآله) لعدم صلاة أبي بكر بالناس! فلا ندرى لماذا يعمم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)القول فيمن يؤم الناس ، ثم يستاء ذلك الاستياء الشديد لعدم صلاة ابي بكر .

إحدى الحقائق التي قفزت إلى فكري ، جاءت نتيجة مقارنة بين موقفين وقفهما مؤسّس الانقلاب على إمامة عليّ(عليه السلام) ، ألا وهو الخليفة عمر بن الخطاب ، ففي غزوة أحد فرّ الرجل مع من فرّ من الصحابة(1) عندما اعتقدوا بمقتل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لمّا راجت إشاعات أكدت ذلك ، ففي تلك اللحظة وفي ذلك اليوم صدّق عمر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل ، وكان من ضمن الفارّين ، واقفاً على صخرة في أعلى الجبل يدرأ عن نفسه غيلة القتل . وعقيدته بأنّ النبيّ بشر يمكن موته وقتله ، هي التي كانت الدافع وراء فراره في محاولة منه للنجاة بنفسه .

والموقف الثاني ، عندما بلغته وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما كان منه إلاّ أنْ سلّ سيفه ، ووقف أمام الوافدين على بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لاستجلاء الخبر ، وإظهار الفجيعة والحزن ، قال : والله! ما مات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ; ولا يموت ، حتّى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير ، وأرجلهم ، فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لم يمت ، ومن كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }(2) قال عمر : فَلَكأنّي لم أقرأها إلاّ يومئذ”(3) .

فلم يهدأ الرجل من تهديده ، ولا انقطع وعيده ، ولا سكنت دعايته الغريبة والعجيبة ، إلاّ عندما أقبل صاحبه ابن أبي قحافة من خارج المدينة ، وقال كلمته التي أعادت لعمر رشده ، وأطلعته على حقيقة موت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

وبالاطلاع على الموقفين لعمر تبيّن لي تناقضهما ; لأنّ موقف قبول مقتله

____________

1- اُنظر فرار عمر في تفسير الفخر الرازي مجلد 3 ، ح9 : 50 ، وشرح نهج البلاغة 15 : 24 ، عن الواقدي ، وغير ذلك من المصادر العديدة .

2- آل عمران (3) : 144 .

3- اُنظر سنن ابن ماجة 1 : 520 .

على أيدي المشركين ، وتسليمه بذلك ، وفراره عند سماعه لذلك النبأ ، يختلف تمام الاختلاف مع ما صدر منه عند سماعه لنباء وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتحقّقه من تلك الوفاة بقدومه إلى بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإشهاره السيف أمامه .

فهمت قطعاً ، وفهم كلّ عاقل مرّت عليه هذه الاستنتاجات ، أنّ عمر كان يدرك جيّداً وقوع الموت على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى كلّ الناس ، ولشدّة إدراكه لموت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، جاء هروبه ، ووقع فراره من أحد لمجرد إشاعة تناهت إلى أسماعه ، مع أنّه قد يكون من الذين تحدّث عنهم الحلبي الشافعي في سيرته المعروفة بالسيرة الحلبية ، حيث ذكر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يناديهم : إليّ يا فلان إليّ يا فلان ، أنا رسول الله ، فما يعرج إليه أحد”(1) . ولم يكن موقفه يوم وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) نابعاً من عقيدة تخلّلت عقله ، وغيّرت من اعتقاده ، وإنّما جاءت تنفيذاً لمخطّط يقضي بحصر نبأ وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، حتّى لا ينتشر ، فتمتلىء المدينة بالوافدين ; فيكون ذلك عائقاً دون تنفيذ مخطّط الانقلاب على منصب الحكومة الإسلاميّة .

الحقيقة الأخرى التي أطلّت عليّ ، ولم أتبيّنها إلاّ فيما بعد هي حركة التمرّد على تأمير النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لأسامة بن زيد ، فمن يكونوا هؤلاء ؟ ولماذا ذلك الطعن؟ وهل هو متعلق بشخص أسامة فقط ، أم يتجاوزه إلى أشياء أخرى؟

فقد ذكر المؤرّخون وأصحاب السير ، أنّ عمر ذهب إلى أبي بكر بعد أنْ تمّ له أمر الحكومة ، وعبّر له عن رغبته في تغيير القائد أسامة ابن زيد ، وتكلّم على أساس أنّه مفوّض من قبل عدد من الصحابة ، فردّ عليه قائلا : “ثكلتك أمّك يابن الخطّاب ، مستعمله رسول الله وتأمرني أنْ أعزله”(2) . فلو كان ابن الخطاب يدرك معنى النبوّة والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وقدسيّته وطاعته حيّا وميّتا لدافع عن ذلك التعيين ، ولما احتاج منه الأمر إلى طلب تغيير قائد عيّنه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكن ماذا يمكن أن

____________

1- السيرة الحلبية 2 : 505 .

2- تاريخ الطبري 2 : 462 ، الكامل في التاريخ 2 : 335 ، تاريخ دمشق 2 : 50 .

يقال في رجل قضى عمره في مواجهة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)والتصدي له في كلّ صغيرة وكبيرة ، كأنّما يريد إسقاط مكانته ، والتقليل من قيمته ، ولا شكّ أنّ صلح الحديبيّة شاهد على ما اقترفه الرجل بحقّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)(1) ، كأنّما هو الوحيد الذي يدرك الحقائق .

وفهمت أنّ الطعن لم يكن بالأساس موجّهاً إلى أسامة ، بقدر ما كان موجّهاً إلى البعث من أساسه ، فالوقت الذي أراده النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)للبعث ، أوحى إليهم بأنّ مقصده كان إخلاء المدينة من عناصر ظهرت عليها رغبة وأطماع في السلطة ، وبقاء تلك العناصر ، قد يسبّب مشاكل في المجتمع الإسلامي الفتي وهو في غنى عنها ، وعندما بلغهم أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)يموت ، تحرّك المتمرّدون على أمره وقراره ، فدخلوا المدينة لاستجلاء الأمر ، وتنفيذ ما كان متّفقاً عليه بينهم .

وقد تسبب دخولهم ذلك ، في فرض واقع على الأنصار ، أملاه خوفهم وخشيتهم من تلك التحرّكات التي كانوا ينظرون إليها بقلق كبير ، وفي مضامينها العصيان والتمرّد والتحدّي للنبوّة والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكانت سقيفة بني ساعدة ملجأهم في البحث عن سبيل لدرء هذا الخطر القادم أمام أعينهم .

كلّ ذلك ما كان له أنْ يوجد لولا انقلاب بعض الصحابة ممّن تحيّن فرصة انشغال أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لينقض على الحكم .

وفوق ذلك فإنّني لا أرى موجباً يسمح بإهمال مسألة نظام الحكم في الإسلام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا مدعاة إلى تركه لأناس مازالوا حديثي عهد بالدين ، لم يفهموا منه أبسط أحكامه ، فضلا عن استيعاب مبدأ الشورى ، ومعرفة نمط الحكومة .

وقد ورد في القرآن الكريم عدد كبير من الآيات التي ضمّنت من بين

____________

1- تقدّمت الإشارة إلى ذلك في حلقة سابقة .

مفرداتها مصطلح الحكم وأولي الأمر ، وجاء تعدّدها تأكيداً على أهميّتها ، وضرورتها ، في مجتمع ناشىء في بداية بناء مؤسساته ، ولا شكّ في أنْ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أوضح مفهوم الحكم والحكومة في الإسلام امتثالا لأمر الله تعالى ، في بيان دينه وشريعته ، وإبلاغها للناس ، وتفسيراً لمقاصد الآيات التي جاءت متضمنة لمصطلح الحكم ، وولاية الأمر ، فتركُ أمر مهمّ وخطير كالحكومة ، وتجاهل مسألة ولاية الأمر في منصب حسّاس ، تنطلق به مرحلة ما بعد النبوة ، إهمال لا يمكننا أن نتصوّر وقوعه من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا من الله تعالى مشرّع تلك الوظيفة ، ومضمّنها في كتابه العزيز .

إنّ ما حدث في سقيفة بني ساعدة ، لا يمكن وضعه في إطار عملية الشورى التي يدّعيها الفريق القائل بأنّ نظام الحكم في الإسلام يستند على أساسها ، حيث إنّ المكان لا يمكنه أنْ يسع غير عدد قليل من المسلمين ، والزمان لا يحتمل غير انتظار توديع و مواراة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) التراب ، ثمّ الحضور إلى المسجد ، ذلك المكان الطبيعيّ الذي ربّى فيه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)الناس على حزم أمورهم وإبرامها فيه ، وقد أسرف من قال بصحّة ما وقع في تلك الفترة الوجيزة من الزمن ، والتي كان لها الأثر السلبيّ على مفهوم الحاكميّة الصحيح ، فلا القدامى منهم كالأشعريّ ولا المتأخرين كأبي الأعلى المودودي في كتابه الخلافة والملك ، قد رجّحوا فكرتهم بخصوص نظرية الحكم في الإسلام ، وجميعهم في ذلك مبرّرون ومثبتون لجملة كلّ تلك التجاوزات التي حصلت ، ومؤسّسون على منوالها نظرية متهافتة ، وبعيدة عن المنطق القرآني للحكومة الإسلاميّة .

كانت تبريرات الأستاذ مهمّة بالنسبة لي ، ورأيت فيها دافعاً نحو مزيد من البحث عن حقيقة نظام الحكم في الإسلام بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، عدت إلى قراءة تلك الحقبة من الزمن في تاريخ الطبري ، الذي يعتبر من أقدم مصادرها في كتب السنّة ، فازددت حيرة من أمري ، ولم يفدني ذلك بشي .

وفي أحد الأيّام ، بينما أنا أتجوّل في أحدى دورات معرض الكتب التي تقام سنويّاً في البلاد ، تراءى لي من أحد أروقة المعرض عنوان لكتاب قد يجيب على تساؤلاتي التي لا تزال قائمة حول نظام الحكم في الإسلام ، يحمل عنوان (السقيفة) ، لصاحبه الشيخ المظفّر ، فانتهيت إليه واستخرجته من الدرج ، وبدأت في تصفحه ، ومن خلال ذلك عرفت أنّ مؤلّفه عالم من علماء الشيعة ، ومع ذلك اقتنيته لقراءة وجهة نظر تلك الطائفة من الحكومة الإسلاميّة .

إنّ مقدّمات أحداث السقيفة ، وما تخللها وتلاها ، يؤكّدان بوضوح على أنّ الذي حصل للنبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وللإمام عليّ(عليه السلام) ، لم يكن سوى مؤامرة خسيسة على الدين ، أُريد بها صرف الإمامة عن أهلها ، كما نُقل عن الخليفة الثاني قوله لعبد الله بن عباس : “كرهوا [يعني قريش] أنْ يجمعوا لكم النبوة والخلافة”(1) ، وقريش كما لا يخفى على كلّ ذي بصيرة ليست كلّ المهاجرين من مكّة ، وإنّما أولئك الذين وقفوا للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الخميس الذي سبق وفاته ، وتطاولوا على مقامه وانتهاك حرمته وحرمة بيته ، بالادّعاء عليه بدعوى لا تجوز على النبوّة والوحي ، حيث نسبوا له الهذيان ، فقالوا : إنّه يهجر والعياذ بالله(2) ، وأولئك الذين تمرّدوا عليه ، ورفضوا الخروج في جيش أسامة(3) .

أما ما حاولوا الاحتجاج به على الشورى بما ورد في القرآن من قوله تعالى : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}(4) . وقوله تعالى أيضاً : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(5) .

____________

1- تاريخ الطبري 3 : 289 ، الكامل في التاريخ 3 : 63 ، شرح نهج البلاغة 12 : 53 .

2- والقائل هو الخليفة عمر وقد هذّبها البعض فقال : إنّه قال : غلب عليه الوجع وقد تقدّم ذلك .

3- تقدّمت الإشارة إلى أولئك فيما تقدّم .

4- آل عمران (3) : 159 .

5- الشورى (42): 38 .

فلم يرد بها المولى سبحانه وتعالى ، غير تربية النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)لصحابته ، على مبدأ الشورى فيما يتعلق بالمسائل الحياتيّة التي تعترضهم ، فلا ينصرف معنى الشورى والتشاور ، إلى ما يتعلق بأحكام الدين وتفاصيل الشريعة ; لذلك فان مقصد الآيتين في هذا الإطار ، ليس احتياج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أخذ آراء المحيطين به ، بقدر ما كان يراد به تربية الصحابة ومن سيأتي بعدهم على العمل بذلك المبدأ ، لأنّ علاقة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالوحي ، لا تترك له مجالا حتى يحتاج إلى أحد يعطيه رأيه في مسألة من المسائل العرضية .

أمّا ما حيك من روايات تُخطّىء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وترجّح آراء بعض أصحابه عليه ، كرواية أسرى بدر(1) ، فمردود من ناحية كون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً عن الخطأ ، ويجب أن يكون دوره دائماً ، هو المصحّح وليس العكس ، مضافاً لصريح القرآن الدال على وجوب طاعة النبي مطلقاً .

بعد هذه الحقائق المتتابعة ، هل يصحّ لنا أنْ نقول بأنّ ما أقدم على فعله هؤلاء الصحابة ، يعتبر شورى مستقاة من الدين الحنيف ، وليست ستاراً وهمياً أريد به الاستيلاء على السلطة؟

أنا لم أجد مسوّغاً واحداً يؤيّد نسبة ما وقع إلى شورى مرجعها الدين الإسلاميّ ; لأنّها في واقع الأمر مجموعة من الأعمال المتناقضة التي هدّمت بعضها

____________

1- وحاصل الرواية أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) استشار أبو بكر وعمر في شأن أسارى بدر ، فقال أبو بكر : “يا نبيّ الله ، هم بنو العمّ والعشيرة . أرى أنْ تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكافر ، فعسى الله أنْ يهديهم للإسلام” أمّا عمر فرفض ذلك وقال : “ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنّي أرى أنْ تمكّنا فنضرب أعناقهم…” فهوى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر ، لكنّ الله سبحانه وتعالى خالف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ووافق عمر فنزلت الآية : “ما كان لنبيّ أنْ يكون له أسرى حتّى يثخن في الارض..” [الأنفال : 67 ]واُنظر ما تقدّم في صحيح مسلم 5 : 157 ، مسند أحمد 1 : 31 ، سنن الترمذي 4 : 336 ، وقد رواه مختصراً ، واُنظر عمدة القاري 4 : 144 حيث أشار الى القصّة باعتبارها من موافقات عمر .

بعضاً ، فحصر الشورى في ستّة كان القصد منها تسليم الحكم بطريقة غير شريفة من الصهر ابن عوف إلى صهره ابن عفّان ، وهي رغبة الخليفة الثاني ، والسبب قد يكون إسداء يد لابن عفان مقابل كتابة هذا الأخير لوصيّة الخليفة الأول التي نقلها المؤرّخون ، أو قد يكون استمراراً في تنفيذ الاتّفاق الذي أبرمه المتحزّبون على صرف الحكومة عن الإمام عليّ(عليه السلام) ، وأغلب هؤلاء هم طلقاء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من بني أميّة . وقد تهاوت نظرية الشورى بتنصيص أبي بكر على عمر وحصر عمر لها بسته اشخاص فقط !

وما أنْ تمّ للإمام عليّ(عليه السلام) أمر الحكومة ، حتّى كشّر أعداءه عن أنيابهم ، ووقفوا في وجهه يحولون دونه والمضيّ بالأمّة في طريق التوحيد والإنابة ، بسبب السياسات الخاطئة التي صدرت عمّن سبقه ، واستطاع الطلقاء أنْ يبنوا قوّة على مدى عشرين سنة ، استكملت عدّتها وعددها ، ووقفت جحافلها تريد صرف الإمامة عن عليّ(عليه السلام)تحت مبرّر القصاص من قتلة عثمان .

وفي واقع الأمر ، ما كانت المطالبة بدم عثمان ، إلاّ تعلّة للخروج على إجماع الأمّة ، وإحداث الفتنة في صفّها ، ومحاولة خبيثة لتحويل الثورة التي قام بها المسلمون الحقيقيون الغيارى على الدين وأهله من عنت وظلم وبغي بني أميّة ، إلى جريمة ، وقلب حقيقة الخليفة عثمان الذي استغله بنو أبيه ، من حاكم ظالم بدّل وغيّر ، واستنزف الأموال الإسلاميّة في مصالح شخصيّة ، واستعمل المنافقين والفسقة والأدعياء ، أمراء وحكّاما وقادة على وجوه الأمّة وخيارها ، إلى خليفة مظلوم ، مات شهيداً والمصحفُ بين يديه .

إنّ من يشكّ في إسلاميّة الثورة التي قامت على الخليفة الثالث ، وأحقيّة القائمين بها ، لا يملك من التعقّل والإنصاف شيئا ; لأنّ الدلائل التي وردت في كتب التاريخ تؤكّد مظلومية هؤلاء الثوّار وإصرار الخليفة على عدم الاستجابة لهم في مطالبهم التي تقدّموا بها إليه والتي كان فيها الإمام عليّ(عليه السلام) وسيطاً بين

الطرفين ، ولمّا يئس المسلمون من إمكانية الإصلاح ، عادوا فحاصروا بيت الخليفة مدّة تجاوزت الأسبوعين ، على مرأى ومسمع ومشاركة من وجوه الصحابة كعمار ابن ياسر الذي شمله النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : “أبشروا فإن آل ياسر ، موعدكم الجنّة”(1) ، ولو كان الأمر كما حاول تصويره لنا أتباع خطّ الخلافة ، من استضعاف ومظلمة للخليفة الثالث ، لوجد أنصاراً أشدّاء في المدينة ، كالإمام عليّ(عليه السلام) ، وشجعان بني هاشم رضوان الله تعالى عليهم ، وأكثريّة الصحابة الذين ما زالت تعجّ بهم المدينة ، ولما بقي الرجل محاصراً تلك المدّة ، ولما قتل تلك القتلة ، ولما بقي في بيته ثلاثة أيّام ، ولما دفن ليلا على عجل ، وفي مكان لم يسبق للمسلمين أنْ دفنوا موتاهم فيه ، بعد أنْ أصرّ من بالمدينة من صحابة على عدم دفنه في البقيع(2) .

الغريب أنّ من ظهر مطالباً بدم عثمان ، كعائشة كانت ممّن ألّب المسلمين عليه ، فهي التي قالت كلمتها الشهيرة : “اقتلوا نعثلا فقد كفر”(3) . وكالزبير وطلحة الذين كانوا مع الثوار(4) ، لذلك يمكن القول بأنّ مطالبتهم بدم عثمان من عليّ(عليه السلام)وأصحابه ، لم يكن إلاّ وسيلة قذرة للوصول إلى إزاحة الإمام عليّ(عليه السلام)، وتسلّم الحكم بعده .

ولولا تعيين الخليفة الثاني لطلحة والزبير في شورى الستّة المزعومة ، لكانت أطماعهما أقلّ حدة ، ولما خلعا بيعتيهما وانساقا بولديهما وراء مطلب خطير تسبّب في تمزيق أوصال الأمّة إلى اليوم ، فقد أخرجا عائشة على جمل

____________

1- كنز العمال 11 : 727 .

2- اُنظر ذلك في تاريخ المدينة 1 : 113 ، تاريخ الطبري 3 : 438 وما بعدها ، الاستيعاب 3 : 1047 ، المعجم الكبير 1 : 79 ، مجمع الزوائد 9 : 95 وغيرها الكثير من المصادر .

3- تاريخ الطبري 3 : 477 ، الكامل في التاريخ 3 : 206 .

4- راجع سير أعلام النبلاء 1 : 34 .

وهي المأمورة بأنْ تقرّ في بيتها ، من مكّة إلى البصرة في محاولة خبيثة لاستنفار الأعراب من حول مكّة والمدينة ، فمن من هؤلاء يسمع بخروج (أمّ المؤمنين) فلم يبادر إلى سيفه وراءها؟

وأمّا زعيم الطلقاء معاوية بن أبي سفيان لعنهما الله ، قد بنى ملكه على مهل ، وتصرّف في الشام وفلسطين تصرّف المالك ، بفضل إقرار عمر له عليهما ، بعد أنْ كان عيّنه الخليفة الأوّل قائداً للجيش الفاتح لبلاد الروم .

فإذا تهاوت نظريّة الشورى بمعاول مؤسّسيها ، وتركت وراءها أثرين خطيرين ما تزال الأمّة الإسلاميّة تعاني من نتائجهما الخطيرة على الدين والأمّة الإسلاميّة هما :

الأول ـ تحوّل وهم الشورى (لأنّ ما وقع إدراجه ضمن إطار شورى الحكم بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لم يجسّد حقيقة الشورى حتّى في أبسط مفاهيمها) إلى ملك غاشم ظلوم خلال فترة قصيرة جدّاً من خوض تلك التجربة .

الثاني ـ فصل الدين عن دوره في الإشراف على كلّ أوجه الحياة ، وتسبّبت تلك الأحداث في فصل الدين عن السياسة خصوصاً والحياة عموماً .

ومقابل الرأي الذي ادّعى إهمال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لأمر الحكومة الإسلاميّة ، تاركاً شأنها للناس ، جاءت عقيدة أهل البيت(عليهم السلام) ، لتعكس الواقع الصحيح لحكومة الإسلام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو عدم ترك ذلك المنصب الحسّاس والخطير ، والذي يتوقف عليه مصير الدين بكافّة تشريعاته ، وبقاء مؤسّساته وتماسك مجتمعه ، فإنّ التعيين لمن سيكون وليّ أمور المسلمين من بعد مرحلة النبوّة أمراً لازماً تحتّمه المرحلة التي مرّ بها هذا الكيان الناشىء من بين معتقدات جاهليّة ، ضاربة جذورها في عمق المتدينين الجدد ، وتحتاج إلى وقت لتغييرها وإحلال بدائل إسلاميّة مكانها ، وتحتّمه تواجد قوّتين معاديتين تترّبصان بالدين الجديد

وتريدان الخلاص منه ; لأنّه يشكّل تهديداً مباشراً لها ، مضافاً إلى الأكثر خطراً منهما ، وهو حزب المنافقين الذي أسّسه الطلقاء ، ودخلوا في الدين من خلاله ; ليسيئوا إليه ويقوّضوا أركانه بالكذب والدعاية والبهتان ، فكلّ تلك المخاطر تستوجب عدم ترك الدين الجديد والأمّة بلا راع بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

والاعتقاد بحتميّة تعيين من يحكم المسلمين بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، أملتها المعطيات التي وفقت إلى الوقوف عليها ، وشواهد تاريخية قالت بأنّ التعيين كان سائداً فيمن يتولى زمام الأمور بعد عصر الأنبياء(عليهم السلام) .

كما أنّ في قوله تعالى : {لَيْسَ لَكَ مِنْ الاَْمْرِ شَىْءٌ}(1) دليل على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)ليس له حقّ في التصرّف من تلقاء نفسه ، بل هو في إطار دوره ، ليس إلاّ مبلغا عن الله تعالى ، فكيف يكون للناس ما لا يكون للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة حسّاسة كالحكومة الإسلاميّة .

وبذلك عرفت أحقيّة أهل البيت(عليهم السلام) في قيادة الأمّة الإسلاميّة ، واقتنعت بأنّ تكالب أعداء الدين من أجل إحلال الصحابة محلّ هؤلاء الأطهار ، كان مؤامرة خسيسة دُبّرت من أجل صرف الناس عن أبواب الهدى التي أمر الله سبحانه وتعالى بإتيانها ، وأخذ الدين منها ، فلم أتردّد لحظة في موالاة العترة الطاهرة ، فاتّخذتهم أولياء في الدنيا والآخرة والحمد لله ربّ العالمين .

____________

1- آل عمران (3) : 128

 

المصدر :مركز الابحاث العقائدية
الإستبصار (http://estebsar.ir)


تعليقات المستخدم

عدد التعليقات 0

ارسال تعليق



محتويات المادة المذكورة أعلاه