الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ،
المؤمنون بالله حقا تفيض قلوبهم بالمحبة للناس .
حالة التعصب السالب اتجاه له ثلاث مكونات : معرفية و انفعالية و سلوكية .
الأفكار التعصبية السلبية تنطوي على حالة كراهية و ازدراء للآخر .
تنقسم الأمراض الخطيرة التي تصيب جسم الإنسان إلى نوعين : الأول منها يهدد بالقضاء على حياة المصاب ، و يؤدي به إلى الموت ، لكنه لا ينتقل بالعدوى إلى الآخرين ، فضرره في حدود الشخص المبتلى به . بعكس النوع الثاني من الأمراض و هي ذات القابلية للسراية و الانتشار ، فإنها تعتبر الأكثر خطورة و تهديداً للصحة و الحياة على المستوى البشري العام .
إن مرض الأورام الخبيثة ( السرطان ) مرض شديد الخطورة ، لكنه ليس معدياً و لا ينتقل ضرره إلى الآخرين ، لذلك تتجه جهود المعالجة نحو شخص المريض ، أما مرض فقدان المناعة ( الإيدز ) مثلاً ، أو الالتهاب الرئوي اللانمطي ( سارز ) فإنه بالإضافة إلى خطورته الذاتية على حياة المصاب ، يشكل تهديداً خطيراً للصحة العامة ، لقابليته للسراية و الانتشار ، لذلك يعلن المجتمع الدولي تعبئة شاملة لمواجهته و تقليص رقعة انتشاره .
و يمكننا تشبيه الأمراض الفكرية بهذين الصنفين من أمراض الجسم ، فهناك أفكار خاطئة تقتصر آثارها السلبية على حياة المعتنقين لها ، و المؤمنين بها ، كأصحاب مختلف المعتقدات و الأفكار المجانبة للصواب ، فهم وحدهم يتحملون مسؤولية آرائهم و توجهاتهم في آثارها الدنيوية ، و نتائجها الآخروية ، يقول تعالى : ﴿ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ 1 ، و يقول تعالى : ﴿ … مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ … ﴾ 2 .
إنه ينبغي بذل الجهود لهداية كل حائد عن الصواب في آرائه و معتقداته ، لكنه إذا أصر و تمسك بفكرته فضرره على نفسه ﴿ … لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ … ﴾ 3 .
لكن المشكلة تكمن في نوع آخر من الأفكار الخاطئة ، التي تدفع أصحابها إلى الإضرار بالآخرين ، و تنمي لديهم نوازع الحقد و الكراهية على الغير ، و تحفزهم نحو العدوان عليه .
و يعبّر عن هذا النوع من الأفكار بالاتجاهات التعصبية السلبية ، حيث تنطوي على حالة من الكراهية و الازدراء للآخر ، تدفع للبطش به ، و الاعتداء على حقوقه المادية و المعنوية .
و يرى علماء النفس ، أن حالة التعصب السلبي اتجاه له مكونات ثلاثة : معرفية و انفعالية و سلوكية ، فالمكوّن المعرفي للاتجاه التعصبي عبارة عن الادراكات و المعتقدات و التوقعات في ذهن المتعصب تجاه الطرف الآخر ، و غالباً ما تأخذ هذه المعتقدات و الادراكات صورة القوالب النمطية ، و يعرّف القالب النمطي بأنه : « تصور يتسم بالتصلب و التبسيط المفرط عن جماعة معينة ، أو أنه يمثل تعميمات مفرطة عن خصائص مجموعة من الأشخاص ينتمون إلى فئة اجتماعية معينة ، و قد تقوم هذه التعميمات المفرطة على أساس سلوك شخصي معين ، أو مجموعة قليلة من الأشخاص ، الذين ينتمون إلى هذه الفئة . و قد تنطوي هذه القوالب النمطية على بعض الفروق الحقيقية في الخصال ، في صورة مشوهة ، بالإضافة إلى أن بعض مظاهرها الأخرى يتم تلفيقها تماماً » 4 .
أما المكوّن الانفعالي ، فيشتمل على المشاعر السلبية ، مثل الازدراء و الخوف و الحسد و الكراهية . و يعني المكوّن السلوكي الممارسات و المواقف العملية التي يسعى المتعصب لاتخاذها ضد الآخرين . بدءاً من المقاطعة و تجنب التعاطي معهم ، إلى التمييز الضار ، حيث يأخذ المتعصب على عاتقه السعي لمنع المستهدفين من الحصول على التسهيلات و الامتيازات التي يتمتع بها الآخرون ، كفرص التعليم ، و الوظائف العالية ، و قد تتطور الحالة إلى سلوك عنفي يتمثل في العدوان الجسماني و السطو على الممتلكات .
تارة يكون التعصب حالة فردية يبتلى بها بعض الأشخاص ، لأسباب و عوامل خاصة ، و أخرى يكون التعصب اتجاهاً و تياراً في المجتمع ، له ثقافته و رموزه و كياناته ، و ذلك هو ما ينذر بأخطار و أضرار كبيرة ، على مختلف الأصعدة من حياة المجتمع .
فأولاً : تصبح فئة من أبناء المجتمع ضمن هذا الاتجاه التعصبي عناصر معقدة ، تنمو في نفوسهم نوازع الحقد و الشر، و تتجه طاقاتهم نحو الهدم و التخريب ، و كلما اتسعت رقعة الاتجاهات التعصبية ، خسر المجتمع المزيد من أبنائه ، الذين يتحولون إلى عناصر سلبية هدّامة ، بدل أن يبنوا حياتهم و يخدموا مجتمعهم .
ثانياً : مع نمو الاتجاهات التعصبية يفقد المجتمع وحدته و استقراره ، حيث من الطبيعي أن يصبح لكل اتجاه تعصبي ضد فئة من المجتمع صدى ورد فعل عند الفئة المستهدفة ، يشكل حالة مضادة للدفاع عن الذات و حماية المصالح ، فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع ، و ميدان احتراب ، بين فئاته المتمايزة عرقياً أو دينياً أو سياسياً . و بذلك تنهار وحدة المجتمع ، و يتقوض أمنه و استقراره .
ثالثاً : تشوه الاتجاهات التعصبية سمعة الجهة التي تنتمي إليها ، من عرق أو دين أو مجتمع أو وطن ، فتضطرب علاقاتها مع الجهات الأخرى ، و قد يتورط المجتمع بكامله في صراع و نزاع مع مجتمعات أخرى ، لوجود اتجاه تعصبي في أوساطه .
أن يتمسك الإنسان بدينه الذي اختاره بقناعة و إدراك ، و أن يلتزم بتعاليمه و أحكامه ، فذلك أمر مرغوب و مطلوب ، و إذا أُعتبر ذلك تعصباً فهو من النوع الإيجابي ، كما يقول الإمام علي : « فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، و محامد الأفعال ، و محاسن الأمور » .
و ما نلحظه من بعض الجهات الغربية و المتأثرين بها ، من إطلاق صفة التعصب بالمعنى السلبي ، على مظاهر الالتزام الديني عند المسلمين ، كتطبيق الشريعة الإسلامية ، و الأخذ بأحكام الدين كالحجاب و اجتناب المحرمات ، هذه النظرة تدخل ضمن إطار الحرب النفسية و الإعلامية على الإسلام و المسلمين .
إن تمسك المجتمع بقيمه و أعرافه و تقاليده غير المسيئة للآخرين ، ليس تعصباً سلبياً ، بل هو نوع من الأصالة ، و الحفاظ على الهوية ، و ممارسة حق التعبير عن الذات .
لكن ما تعاني منه جميع الأديان هو بروز توجهات تعصبية سلبية في أوساط معتنقيها ، ضد الآخرين ، حيث تعتقد هذه التوجهات بأنها مكلفة من قبل الله تعالى بفرض ديانتها على الناس ، و أنها مخولة بمعاقبة المخالفين لها ، فهي تمتلك الحقيقة المطلقة ، و الآخرون في كفر و ضلال ، و عليهم الخضوع و الإتباع ، و إلاّ استحقوا الردع و التأديب .
و تمارس هذه التوجهات نزعاتها التعصبية ليس ضد أتباع الديانات الأخرى فقط ، بل تمتد إلى داخل دائرة الدين نفسه ، فهي لا تقبل بوجود الرأي الآخر ، و تريد فرض فهمها للدين على جميع معتنقيه ، دون أن تفسح المجال للمذاهب و الاجتهادات الأخرى .
إنه يمكن القول بجزم ، أن الدين في مفاهيمه و تعاليمه الواقعية ، التي أوحى بها الله تعالى لأنبيائه ، لا يمكن أن يسمح أو يجيز حالة من التعصب العدائي ضد أحد من أبناء البشر ، إلا أن يكون معتدياً ظالماً .
فالبشر خلق الله و هو تعالى رحيم بعباده ، و قد منحهم حرية الإرادة و الاختيار ، و لا يرضى أن يصادر أحد هذه الحرية من الناس ، لذلك فحدود صلاحيات الرسل و الأنبياء هي التذكير و التبليغ ، و لا حق لهم في الفرض و الإكراه يقول تعالى : ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ 5 ، و يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ 6 .
و منح الله تعالى البشر حق الكرامة ، يقول تعالى : ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا … ﴾ 7 فلا يمكن أن يسمح بالاعتداء على هذا الحق الممنوح من قبله تعالى .
إن المؤمنين بالله حقاً يجب أن تفيض قلوبهم بالمحبة للناس ، و الرفق بهم ، و الاحترام لحقوقهم و كرامتهم ، فقد ورد في الحديث عن رسول الله : « الخلق عيال الله و أحبهم إليه أنفعهم لعياله » .
و آيات القرآن الكريم كلها دعوة واضحة صريحة للدفاع عن حقوق الإنسان و كرامته ﴿ … وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ … ﴾ 8 و ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ … ﴾ 9 .
و منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله قائم على أساس مخاطبة العقل و الوجدان، و استخدام أفضل أساليب الجذب و الاستقطاب ، بالكلمة الطيبة ، و الأخلاق الحسنة ، و التعامل اللائق : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ … ﴾ 10 .
فسلوكيات الحقد و الازدراء ، و الإساءة للآخرين ، تتناقض تماماً مع مفاهيم الدين و تعاليمه . و إذا كان المنظرون لهذه الاتجاهات التعصبية يستدلون ببعض النصوص الدينية ، لتبرير توجهاتهم و ممارساتهم ، فإن الإشكال في فهمهم و قراءتهم لهذه النصوص ، و في التعامل معها منفصلة عن منظومة القيم و المفاهيم الإسلامية .
و قد تكون لبعضهم أغراض و نوازع سيئة يستغلون النصوص و يوظفونها لتبريرها و تمريرها ، لكن قيم الدين و مبادئه الأساسية ترفض هذه التوجهات ، فالله تعالى لا يقبل بالظلم و العدوان ، يقول تعالى : ﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ 11 .
و ما نلحظه من هذه الممارسات التعصبية ، من قبل بعض الفئات المنتمية إلى الحالة الدينية الإسلامية ، يشكل كارثة في تاريخ الإسلام و المسلمين المعاصر .
لقد غررت هذه التوجهات التعصبية بمجاميع من أبناء المسلمين ، و خاصة الشباب ، لتقذف بهم في أتون معارك خاسرة ، داخلية و خارجية ، انطلاقاً من تصورات قاتمة سوداء ، و مشاعر سلبية بغيضة ، تجاه مجتمعاتهم و العالم .
و أشعلت هذه التوجهات نار الفتنة الداخلية بين المسلمين ، عبر إثارة النزاعات الطائفية المذهبية ، و ابتذال فتاوى التكفير و اتهام الناس في أديانهم ، و رميهم بالشرك و الابتداع ، لمجرد الاختلاف في الرأي و الاجتهاد . و نتج عن ذلك ظهور جماعات عنف و إرهاب ، تنتهك الحرمات ، و تسفك الدماء ، و تنشر الرعب و الاضطراب في بلاد المسلمين .
كما وفرت هذه التوجهات التعصبية ، أفضل الفرص لتشويه سمعة الإسلام و المسلمين على مستوى العالم ، و لارتباك علاقات الدول و المجتمعات الإسلامية بسائر الأمم و القوى الدولية .
و مؤلم جداً أن يقترن اسم الإسلام بالإرهاب على الصعيد العالمي ، و تتخذ مختلف دول العالم إجراءات مشددة تجاه المؤسسات و الأنشطة الإسلامية ، و تجاه الرعايا المسلمين 12 .
عدد التعليقات 0