الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ، ما هي النيّة؟
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾1.
النيّة: “هي التصميم والعزم على الإتيان بأمر وإجماع النفس على فعله بعد تصوّره والتصديق بفائدته”2. “والنيّة حالة نفسانية وجدانية يعبّر عنها بالهمّة والعزم والإرادة والقصد”3.
ولا يمكن أن يخلو عمل اختياريّ لإنسانٍ من نيةٍ بأيّ حالٍ من الأحوال، فلو أراد شخصٌ ما الإتيان بأمرٍ اختياريٍّ بلا نيّة لما استطاع ذلك مهما حاول.
أهمّية النيّة وموقعيّتها في الإسلام
وللنية في الإسلام دورٌ مهمٌّ في إعطاء الفعل والموقف الإنسانيّ قيمته الحقيقية، كما لها دورٌ في تقييم الفاعل أي تحديد قيمته وموقعه أو رتبته الحقيقية. فالإسلام لم يعط الفعل العباديّ ولا الفاعل قيمةً ولا أهمّيةً مجرّدة عن النية والقصد وبمعزلٍ عنهما, بل إنّ الفعل العباديّ في نظر الإسلام هو جهدٌ إنسانيّ تحدّد قيمته النيّة والقصد، لأنّ مدار الأعمال على النيّات فهي التي تعطي العمل قيمته الواقعية.
وبما أنّ النية تعبيرٌ عن الموقف الداخليّ، وعن التوجّه الذاتيّ، والحقيقة الباطنة للإنسان التي هي روح الفعل الحقيقية، لذلك فإنّ النية تعتبر أداة كشفٍ عن حقيقة الباطن الإنسانيّ. تلك الحقيقة التي ليس بإمكان الفعل أن يكشفها لأنّ الفعل يمكن أن يخضع لعملية تزوير مقصودة من قبل الانسان، وذلك أنّه صياغةٌ لجهدٍ ظاهر، يمكن أن يخرجه الفرد بشكلٍ لا يتطابق بالضرورة مع حقيقته الداخلية ومحتواه الباطن.
ومن أجل إيضاح الفكرة أكثر نقول إنّنا نرى الكثير من الناس يبذل المال، ويبدي حسن الخلق، ويصلّي ويصوم. ونحن نشاهد تلك الصور الظاهرة للأفعال متساوية في الظاهر عند جميع الممارسين لها، فنحسبها سواء، ولكن لتقييمها في نظر الإسلام وسيلة أخرى، ولوزنها ميزان آخر، وهو النية.
فالأعمال الّتي تكون على هيئة واحدة في الظّاهر، مثل الذّهاب للجهاد، لا تكون كلها متساوية في النية والدافع. فيمكن أن يكون الباعث لهذا العمل كسب الغنائم أو الاستعلاء على النّاس والتفاخر بالبطولات، أو قد يكون دافِعُهُ نصرة الحقّ ودفع الظّلم وإطفاء نار الفِتن وأمثال ذلك.
فالذّهاب لِلحرب، واحدٌ في الشّكل والظّاهر، ولكن شتّان بين النّوايا السّليمة، وبين النّوايا المغرضة.
ولأجل ذلك، أتت الأوامر بإصلاح النيّة، وتنقيتها من الشّوائب، قبل السّلوك في أيّ طريق. وما السّالك في خطّ الله، والكمال المعنويّ بِمُستثنى عن ذلك، فهل أنّ هدفه من سلوك سبيل التهذيب والرياضة، هو التّكامل المعنويّ، والوصال الحقيقيّ، أم أنّه يريد كسب عنصر القّوة في عالم النفس، والتّسلّط على ما وراء الطّبيعة، ليشار إليه بِالبَنان؟!
وما ورد في الحديث الشريف عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ ولكل امرئ ما نوى”4 إشارةٌ لهذا المعنى، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: “إنّ الرجلين من أمّتي يقومان في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإنّ ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض”5.
النيّة وآثارها
إنّ العبادة ليست عبارة عن الطقوس البدنية، بل حقيقة العبادة وقوامها بلحاظ الحالة النفسية والنية القلبية، فالعبرة بالقلب والباطن لا بالقالب والظاهر “فحقيقة العبادة هي التسليم للحقّ قلباً، فمن لم يسلم له قلباً فهو عاص بحقيقة وجوده، ولا تفيد الأعمال الصادرة منه التي هي بصورة البرّ والتقوى، لأنها حينئذ ليست إلّا مجرّد الصورة بلا روح العبودية”6.
وهذه النية لها آثار كثيرة وخطيرة بينتها روايات أهل البيت عليهم السلام. ومن هذه الروايات ننقل الآتي:
1- النيّة أساس العمل:
عَنْ أبي عَبْدِاللهِ عليه السلام في قَوْلِ الله تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾7 قَالَ: “لَيْسَ يَعْنِي أَكْثَرَ عَمَلاً ولَكِنْ أَصْوَبَكُمْ عَمَلاً وإِنَّمَا الإِصَابَةُ خَشْيَةُ الله والنِّيَّةُ الصَّادِقَةُ والْحَسَنَةُ8 – ثُمَّ قَالَ – الإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يَخْلُصَ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ والْعَمَلُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا تُرِيدُ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْه أَحَدٌ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ والنِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ أَلَا وإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَمَلُ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾9 يَعْنِي عَلَى نِيَّتِه”10.
في هذه الرواية نقاط متعدّدة جديرة بالاهتمام نجملها بالآتي:
• إنّ العمل الصادر من الإنسان حسنه قد يتحقّق بكثرة العمل تارة وبإصابته أخرى.
• فسر الإمام ﴿أَحْسَنُ عَمَلً﴾ بخلوصه لا بكثرته.
• اعتبر الإمام أنّ العمل الأصوب أي الأخلص يوجب القرب منه تعالى وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها.
• حصر الإمام الإصابة في أمرين وهما: “خَشْيَةُ الله والنِّيَّةُ الصَّادِقَةُ والْحَسَنَةُ”.
• العمل لا يتحصّل ولا يتقوّم بدون نية صادقة حسنة، وينيغي حفظه عن ارتكاب الحرام، وإنّما يحصل ذلك بملكة الخشية والخوف من الله سبحانه.
• إصابة العمل وخلوصه ليس بمجرّد وقوعه كذلك بل باعتبار بقائه واستمراره ما دام العمر.
• إنّ الرياء كما يتحقّق في أوّل العبادة ووسطها كذلك يتحقّق بعد الفراغ منها إلى آخر العمر فيجعل ما فعل لله خالصاً في حكم ما فعل لغيره ولذا كان الإبقاء أشدّ لأنّه يحتاج إلى مراقبة النفس والمحافظة على العمل من البطلان في زمان أطول من زمان وقوعه11.
• وفسّر الإمام العمل الخالص أنّه الذّي لا تريد أن يحمدك عليه أحد حين العمل وبعده إلاّ الله تعالى12.
2- النية باب سعة الرزق:
هناك روايات رويت بلفظ “من حسنت نيته” ورتبت على “حسن النية” كذلك آثاراً دنيوية وآخروية، ومن هذه الروايات الآتي:
عن الإمام الصادق عليه السلام: “ومَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُه زِيدَ فِي رِزْقِه”13.
وعنه عليه السلام: “ومن حسنت نيته زيد في عمره”14.
وعن الإمام علي عليه السلام: “من حسنت نيته كثرت مثوبته وطابت عيشته ووجبت مودته”15.
واعلم أنّ الدليل على جواز الزيادة في الأرزاق، هو الدليل على جواز الزيادة في الأعمار، لأنّ الله تعالى إذا زاد في عمر عبده، وجب أن يرزقه ما يغتذي به16.
ومعنى “من حسنت نيته” أي عزمه على الطاعات أو على إيصال النفع إلى العباد أو سريرته في معاملة الخلق بأن يكون ناصحاً لهم غير مبطن لهم غشاً وعداوة وخديعة، أو في معاملة الله أيضاً بأن يكون مخلصاً ولا يكون مرائياً ولا يكون عازماً على المعاصي ومبطناً خلاف ما يظهر من مخافة الله عزّ وجلّ17.
3. النية طريق المثوبة الأخروية:
ومن الآثار الأخروية للنية ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: “إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”18.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهعليه السلام قَالَ: “إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا الله أَبَداً وإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا الله أَبَداً فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه تَعَالَى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾19 قَالَ عَلَى نِيَّتِه”20.
4- العون على قدر النية:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم فمن صحّت نيّته تمَّ عون الله له، ومن قصرت نيّته قصر عنه العون بقدر الذي قصّر21.
وهذه الرواية دقيقة وعميقة جداً فقد ربط الإمام بين المقادير الإلهية وصحّة النية، أي أنّ إبرام المقادير الإلهية والقضاء المحتوم يتوقّف على شاكلة نية الإنسان وحجم تلك النية بحسب حجم همّته، فإنّ العزائم الإلهية تأتي على قدر همم الرجال وهذا الترابط بين الفعل النفسانيّ للإنسان وهو نيته مع الفعل الآلهيّ يشير إليه الحديث النبويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “تفاءلوا بالخير تجدوه”22.
فبصنع الانسان لنيته وبحسن نيته تصطنع له المقادير، فنية كلّ شخص حظه من قدره23.
وفي نهج البلاغة في وصية الإمام عليّ لابنه الإمام الحسن عليهما السلام قال “فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ”24. ومعنى ذلك أنّ الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة25.
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “إنّ الله تعالى يدخل بحسن النّية وصالح السريرة من يشاء من عباده الجنة”26.
من خلال الروايات المتقدّمة تبيّن أنّ للنية آثاراً متعدّدة بعضها دنيويّ كزيادة الرزق، وزيادة العمر وغير ذلك، وبعضها أخرويّ. وقد جاء بعض هذه الآثار بعناوين كلية “يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ”27، “الخلود في الجنة والنار بسبب النية”، وبعض الروايات بين أهمية النية من خلال صوغ قانون عام في غاية الأهمية وهو “أنّ المقادير الإلهية تتنزّل بمقدار النية”.
ما هو الإخلاص؟ ومن هو المخلص؟
النية هي ميزان قبول الأعمال. والمعيار في قبولها هو كونها خالصة لله. فما معنى أن تكون النية خالصةً لله تعالى؟ وما هو الإخلاص؟ وما هي حقيقته؟
الإخلاص لله هو غاية الدين كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الإخلاص غاية الدين”28، وهو أفضل العبادات، بل هو روح العبودية لله وجوهرها، كما أخبر عن ذلك إمامنا الصادق عليه السلام: “أفضل العبادة الإخلاص”29.
الإخلاص في العمل هو تنزيه العمل أن يكون لغير الله فيه نصيب. وفي الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “إن لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيء مِنْ عَمَل لله”30. فحقيقة الإخلاص تخليص نيّة الإنسان وعمله من شائبة غير الله تعالى. وهو لا يتحقّق إلا عند من كان محبّاً لله عزّ وجلّ بحيث لا يبقى لحبّ الدنيا وحبّ النفس والتعلّق بشهواتها وملذّاتها وسمعتها وجاهها ومناصبها في قلبه قرار.
فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أيّ عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصدٌ أو دافعٌ سوى رضاه، والتقرّب إليه، ونيل الزّلفى لديه. بحيث تكون نيّته متوجّهةً دائماً إلى الله، فلا تطلب إلّا رضاه ووجهه الكريم، حبّاً به، وطمعاً في فضله وإحسانه، لأنّ العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحدٌ سوى الله تعالى.
إنّ أعمال الناس مرهونة بالنيّات كما أسلفنا. وإذا لم تكن النوايا خالصةً، فهذا يعني أنّه يشوبها الشّرك والله تعالى لا يغفر أن يشرك به: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾31، لأن الشّرك ظلمٌ عظيمٌ ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾32، والله تعالى لم يأمر إلّا بالإخلاص كما في قوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾33، وهو بالأصل لا يقبل إلّا ما كان له خالصاً، كما في الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “قال الله عزَ وجلّ: أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً”34. فما لم يكن العمل مقبولاً عند الله فلا قيمة له على الإطلاق.
وعليه نخلص من كلّ ما سبق إلى أنّ الإخلاص أساس الدين ودعامته التي يرتكز عليها في عمليّة بناء الإنسان على خطّ الإيمان بالله والتوجّه الدائم إليه وتوحيده. كما أنّه رأس الفضائل، والمناط في قبول الأعمال وصحّتها، فلا قيمة لعملٍ لا إخلاص معه، كما ورد عن مولى الموحّدين الإمام علي عليه السلام: “من لم يصحب الإخلاص عمله لم يقبل”35. وقال عليه السلام في شأن المخلصين: “طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره”36.
آثار الإخلاص
للإخلاص آثارٌ وخصائص عديدةٌ وردت في النصوص والروايات الشريفة، لا يتمتّع بها إلّا المخلصون والمنقطعون إلى الله تعالى بنيّاتهم وأعمالهم، أمّا الآخرون فمحرومون من هذه النِّعم والكرامات السَّنيّة. وفيما يلي نذكر بعضا منها:
أولاً: عدم تسلّط الشيطان على الإنسان المخلص، بحيث لا يعود للشيطان قدرة على إغوائه. لأنّ الله تعالى حاضرٌ دائماً في حياته، فهو لا يرى غيره، ولا يفكّر إلّا فيه، ونيّته دائماً متوجّهة إليه، فلا يكون للشيطان إليه سبيل: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾37. والمخلَص هو الذي خلّصه الله تعالى من دنس الخطايا والذنوب، واختاره بعد أن رأى فيه صدق النيّة وإخلاصها. “أَخْلَصَ للهِ الدِّينَ: أَمْحَضَهُ وتَرَكَ الرِّياءَ فِيهِ، فهُوَ عَبْدٌ مُخْلِصٌ ومُخْلَصٌ، وهو مَجَازٌ، وفي البَصَائِرِ: حَقِيقَةُ الإِخْلاصِ: التَّبَرِّي منِ دُونِ الله تَعَالَى، وقُرِئَ: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾38 بِكَسْرِ الَّلامِ وفتْحِها، قال الزَّجّاجُ: المُخْلَص: الَّذِي جَعَلَه الله مُخْتاراً خَالِصاً من الدَّنَسِ، والمُخْلِصُ: الَّذِي وَحَّدَ الله تعالى خَالِصاً. وأَخْلَصَ الرَّجُلُ السَّمْنَ: أَخَذَ خُلاصَتَهُ، نَقَلَه الفَرّاءُ”39. وهو أمر اختياريّ يمكن لكل إنسان أن ينال نصيباً وحظاً منه بحسب سعيه واجتهاده. فإذا تدرّج الإنسان في مراتب الصدق والإخلاص اصطفاه الله واجتباه لنفسه فكان من المخلَصين، ولكن تبقى المراتب العالية للإخلاص والاجتباء مختصّة بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.
ويقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: “وقد سمّاهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه. والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئاً من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلّا ما أراده الله ولا يعملون إلّا له. ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إنّ الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلّق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلّا الله سبحانه”40.
ثانياً: الإنسان المخلص مُعفى من الحساب في يوم الحشر وعند الوقوف في عرصات يوم القيامة. فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود فئة من الناس تأمن صعقة يوم القيامة وفزعه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾41، وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾42، فإذا ضممنا هذه الآية إلى الأولى يتّضح أنّ هذه الطائفة من النّاس هي عباد الله المخلصين، لأنه ليس لهؤلاء أعمال توجب حضورهم في عرصات يوم القيامة، فهم قد قتلوا النفس الأمّارة بالسوء في ساحات جهاد النفس وترويضها بالمراقبة والعبادة والأعمال الصالحة، وتمّ لهم حسابهم خلال فترة جهادهم لعدوّهم الباطنيّ والظاهريّ في الحياة الدنيا.
ثالثاً: كلّ ما يُعطى الإنسان في يوم القيامة من ثوابٍ وأجرٍ فهو مقابل ما عمله في الحياة الدنيا إلّا طائفة المخلَصين من الناس، فإنّ الكرامة الإلهيّة لهم تتعدّى حدود الأجر على العمل كما أخبر تعالى بذلك في كتابه الكريم حيث قال: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾43. فعباد الله المخلَصين لن يكون جزاؤهم بحسب أعمالهم، بل الله المنّان سوف يعطيهم بفضله وكرمه. فهم لا ينالون الجزاء مقابل العمل وإنّما ينالون من الكرامات الإلهيّة وفق إرادته تعالى ومشيئته وفيض كرمه وسعة عطائه الذي لا حدّ له.
رابعاً: إنّ لهؤلاء المقام المنيع والمنصب الرّفيع والمرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء الحمد والشّكر والثناء للذّات المقدّسة كما هو لائقٌ بها. قال عزّ من قائل ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾44. وهذه غاية كمال المخلوق. فهذه الآية وصفت المخلصين بأنّهم الوحيدون الذين يصحّ منهم وصف الذات الإلهيّة المقدّسة، مما يدلّ على عمق معرفتهم بالله سبحانه وتعالى، فلم يكن في وصفهم لله تعالى أيّ إشكال بخلاف سائر الناس.
خامساً: من يخلص لله يرزقه الله العلم والحكمة كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”45. فالمداومة على الإخلاص تورث الإنسان العلم الإلهيّ الّذي ليس فوقه أيّ علم.
سادساً: من يخلص لله تعالى في النيّة والعمل يرزقه الله تعالى البصيرة في دينه، فلا تلتبس عليه الأمور، ولا يقع في مضلّات الفتن، ويصبح عارفاً بطريقه جيّداً وموقناً بما يفعله. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “عند تحقّق الإخلاص تستنير البصائر”46.
سابعاً: نجاح الأعمال، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: “فِي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الأمورِ”47. وقال عليه السلام أيضاً: “لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكَتِ الأَعمالُ”48.
كيف يتحقّق الإخلاص؟
يتحقّق الإخلاص من خلال إزالة المانع الذي يحول دون تحقّقه. وهذا المانع هو هوى النفس. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “كيف يستطيع الإخلاص من يغلبه الهوى؟”49.
والهوى هو حبّ النفس واتّباع الأوامر الصادرة منها، وهو ما يُعتبر شركاً، لأنّ المُطاع فيه هو نفس الإنسان وليس الحقّ عزّ وجلّ. إنّ اتّباع الهوى يؤدّي بالإنسان إلى الضّلال عن سبيل الله عزّ وجلّ وصراطه المستقيم، ذلك أنّ سبيله تعالى مرهونٌ بأمرين هما التوحيد والطاعة، وقد قال عزّ من قائلٍ: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾50. وللأسف فإنّنا في كثيرٍ من الموارد نجعل أهواءنا مكان الله تعالى، وننصاع لميولنا النفسيّة بدل الانصياع لأحكام الشّرع.
من هنا يقول الحقّ تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾51، فإن حبّ النفس يؤدّي إلى طاعتها واتّباع أوامرها، واتّباع أوامرها يعني أنّ المُطاع ليس الله تعالى، ممّا يكون سبباً في وقوع الإنسان في المعصية والمخالفة لأوامر الحق عزّ وجلّ، وبالتالي البعد عن الله والحرمان من الهداية.
وهناك أمرٌ آخر يساعد أيضاً على تحقّق الإخلاص وهو اليقين. لأنّ الإخلاص لله هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الإخلاص ثمرة اليقين”52. فلكي يغدو الإنسان مخلصاً يجب أن يكون صاحب يقينٍ على مستوى التوحيد، ومؤمناً بأنه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وأنّ كلّ شيء في هذا العالم يبدأ من الله ويعود إليه, ليكون من: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾53.
والخطوة الأولى نحو اليقين الصحيح تكمن بالعلم والمعرفة بأسس هذا الدين ومبادئه ومعارفه الإلهية، ومن دون هذه المعرفة يبقى يقين الإنسان ضعيفاً ومتزلزلاً، وبالتالي محروماً من فضيلة الإخلاص. عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: “أوّل الدين معرفته وكمال معرفته، التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له”54.
* أخلاقنا الإسلامية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الشعراء، الآيتان 88-89.
2- راجع: الإمام الخميني، روح الله الموسوي، الآداب المعنوية للصلاة، ترجمة السيد عباس نور الدين، بيروت، مركز باء للدراسات، 2009م، ط 1، الباب الثالث، الفصل الأول: في حقيقة النية في العبادات، ص 167.
3- م. ن.
4- الشيخ الحر العاملي، محمد بن حسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1409هـ.، ط 1، ج1، ص49.
5- العلامة المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، نشر دار إحياء التراث العربي، 1403هـ.، ط 2، ج81، ص249.
6- الشيخ الكربلائي، جواد بن عباس، الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، مراجعة محسن الأسدي، لا.م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1428هـ – 2007م، ط 1، ج5، ص 459.
7- سورة الملك، الآية 2.
8- في بعض النسخ (والخشية).
9- سورة الإسراء، الآية 84.
10- الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، طهران، نشر دار الكتب الإسلامية، 1407هـ.، ط 4، ج2، ص 16، باب الإخلاص، ح4.
11- ينظر: المازندراني، محمد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعراني طهران، المكتبة الإسلامية، 1424هــ، ط 1، ج9، ص 298.بتصرف -.
12- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 8، ص 49 – 52.
13- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 105.
14- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص 408.
15- الليثي الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق وتصحيح حسين الحسني البيرجندي، قم، نشر دار الحديث، 1418هـ.، ط 1، ص 465.
16- الديلمي، حسن بن محمد، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق وتصحيح مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1408 هـ، ط 1، ص 161.
17- ينظر: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 8.
18- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، باب الغزو مع الناس إذا خيف على الإسلام، ح1، ص 20.
19- سورة الاسراء، الآية 84.
20- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، باب النية، ح 5، ص 85.
21- المفيد، محمد بن محمد، الأمالي، تحقيق وتصحيح حسين أستاد ولي وعلي أكبر غفاري، قم، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، 1413هـ، ط 1، المجلس السابع، ح11، ص 66.
22- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، قم، دار الحديث، لا.ت، ط 1، ج3، الفأل، ص 2353.
23- ينظر: النيات والخواطر، الشيخ محمد السند، ص 15-16.بتصرف -.
24- السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1414هـ.، ط 1، ص 399، الخطبة 31، من وصية له عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
25- العلامة الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1417هـ.، ط 5، ج 2، ص 37.
26- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 143.
27- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 20.
28- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 19.
29- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص245.
30- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص 304.
31- سورة النساء، الآية 116.
32- سورة لقمان، الآية 13.
33- سورة البينة، الآية 5.
34- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص295.
35- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 464.
36- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص16.
37- سورة ص، الآيتان 82-83.
38- سورة ص، الآية 83.
39- الحسيني الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، 1414هـ – 1994م، ط 1، ج9، ص274.
40- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص136.
41- سورة الزمر، الآية 68.
42- سورة الصافات، الآيتان 127- 128.
43- سورة الصافات، الآيات 39-41.
44- سورة الصافات، الآيتان 159-160.
45- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج53، ص326.
46- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 338.
47- م.ن، ص 354.
48- م.ن، ص 415.
49- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتي، إيران، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1407 هـ، ط 1، ص 306.
50- سورة ص، الآية 26.
51- سورة النازعات، الآيتان 40-41.
52- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 23.
53- سورة البقرة، الآية 156.
54- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 39، الخطبة 1.
المصدر :نجاح
الإستبصار (http://estebsar.ir)
عدد التعليقات 0