الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: “كفى باليقين غنى“1.
تنقسم حالات الإنسان في الحكم على الأشياء إلى أنحاء:
الأول: الشَّك
وهو أن يستوي طرفا الحكم، فلا يُحكم بإيجاب أو سلب، فلا يترجَّح أحدهما على الآخر، كما لو قيل: “المريخ مسكون” وأنت لا تعرف هل هو مسكونٌ حقيقة أم لا، فيستوي طرفا الحكم، أي بتعبير الأرقام لكل من الطرفين نسبة 50%.
الشَّك هذا في الأمور الاعتقادية التي تمثِّل مصير الإنسان ومستقبله غير مقبول إسلامياً، وهو خطير إذا لم يُزال من النفس والفكر، ويؤدي إلى مضاعفات خطيرة على سلوك الإنسان وروحه وسعادته.
انظر إلى القرآن الكريم كيف يصف الكافرين، الذين لم يحسموا أحد طرفي الحكم وبقوا في شك: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾(هود:110)، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ﴾(سبأ:54)، ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾(الدخان:9).
الثاني: الظن
وهو أن يترجَّح أحد طرفي الحكم، ترجّحاً ضعيفاً، أي بتعبير الأرقام أن تحكم على الشيء بنسبة 60 أو 70%.
الظن هذا أيضاً ليس مقبولاً إسلامياً، في الأمور الاعتقادية الأساسية، مثل الإيمان باللَّه ورسله واليوم الاخر والحساب والعقاب والجنة والنار.
الثالث: اليقين
وهو الحكم على الأمور بنسبة 100%، فيترجّح أحد طرفي الحكم، ترجحاً قويّاً.
اليقين هذا هو المطلوب إسلامياً وخاصة في الأمور المصيرية، التي تجيب على أسئلة، من أين ، وكيف، وإلى أين؟
يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(المائدة:50).
ويصف المتقين فيقول: ﴿… وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(البقرة:4)، ﴿… وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(النمل:3)، ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(لقمان:4).
وفي المقابل يصف كثيراً من الناس﴿أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾(النمل:82) إلى غير ذلك من الايات التي سيمر بعضها.
واليقين أعلى درجات الإيمان ودونه درجات، يقول أبو عبد اللَّه عليه السلام: “… الإسلام درجة،… والإيمان على الإسلام درجة،… والتقوى على الإيمان درجة،… واليقين على التقوى درجة،… فما أوتي الناس أقل من اليقين، وإنما تمسّكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم“2.
فعلى الإنسان المؤمن أن يحاول جهده أن يصعد في الدرجات ولا يكتفي بدرجات الاعتقاد الأوليّة، لأنها إذا لم تقوّى يخشى عليها من الزوال.
النبي إبراهيم عليه السلام نموذج مهمُّ لنا في طلب المزيد من درجات الإيمان، يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي…﴾(البقرة:260)، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(الأنعام:75).
وفي الحديث، عن صفوان، سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول اللَّه لإبراهيم ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(البقرة:260) أكان في قلبه شك؟ قال عليه السلام: “لا، كان على يقين ولكنّه أراد من اللَّه الزيادة في يقينه“3.
ولقد حذّر رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله من ضعف اليقين “ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين“4.
بين اليقين العقلي والقلبي
هنا نودّ الإشارة إلى أمر مهم وهو أنه صحيح أن اليقين العقلي مطلوب، ولكن هنا سؤال، لماذا نرى أناساً يقولون إننا موقنون باللَّه وبالآخرة، ولكنهم في نفس الوقت نراهم ضعفاء في عملهم والتزامهم بأوامر اللَّه ونواهيه؟
نقول: إن هناك فرقاً بين اليقين القلبي والعقلي، فانظر إلى إبليس، فإنَّه كان موقناً باللَّه عقلاً ولكن لم يترسّخ يقينه في قلبه.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “إنَّ الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم باللَّه وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهية الذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان.
والدليل على ذلك أن الشيطان كما يشهد له الذات المقدسة عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر لأنه يقول: “خلقتني من نار وخلقته من طين”، فهو إذاً يعترف بالحق تعالى وخالقيته، ويقول أيضاً: “انظرني إلى يوم يبعثون”. فيعتقد بالمعاد وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كله خاطبه اللَّه سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين.
فإذاً يمتاز أهل العلم من أهل الإيمان، وليس كل من هو من أهل العلم أهلاً للإيمان، فيلزم للسالك أن يدخل نفسه في سلك المؤمنين بعد سلوكه العلمي، ويوصل إلى قلبه عظمة الحق وجلاله وبهاءه… وإلا فمجرد العلم لا يوجب خشوعاً كما ترونه في أنفسكم فإنكم مع كونكم معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادكم بعظمة اللَّه وجلاله ليست قلوبكم خاشعة…”5.
فإذن المطلوب أن ينزل العلم واليقين العقلي إلى منطقة القلب حتى يؤثر اليقين أثره في نفس وسلوك الإنسان.
وقد فرق بعض العلماء بين الإيمان العقلي والقلبي بمثال معبِّر، حيث مثَّلوا لذلك بالإنسان الذي ينام مع ميّت في غرفة لوحدهما، فقالوا: إن الإنسان يعلم يقيناً أن الميت لا يؤذي، ولكن يخاف أن ينام معه منفرداً، وما ذلك إلا لأن اليقين العقلي بعدم أذيّة الميت له، لم ينزل إلى القلب.
أهمية اليقين وثمراته
الأحاديث كثيرة في أهميَّة اليقين نأتي على بعضها:
1- رأس وعماد الدين والإيمان كله
عن الإمام علي عليه السلام: “اليقين رأس الدين“6.
وعنه عليه السلام: “اليقين عماد الإيمان“7.
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله“8.
2- اليقين والعبادة
عن الإمام علي عليه السلام: “باليقين تتم العبادة“9.
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: “لا عمل إلا بنية، ولا عبادة إلا بيقين“10.
3- قوّة القلب باليقين
عن الإمام علي عليه السلام: “أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوِّه باليقين“11.
4- اليقين فلاح ونجاة وصلاح
عن الإمام علي عليه السلام: “من أيقن أفلح“12.
وعنه عليه السلام: “من أيقن ينجو“13. وعنه عليه السلام: “أيقن تصلح“14.
5- اليقين سعادة
عن الإمام علي عليه السلام: “ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين“15.
6- الصبر
عن الإمام علي عليه السلام: “الصبر ثمرة اليقين“16.
7- الإخلاص
عن الإمام علي عليه السلام: “إخلاص العلم من قوّة اليقين“17.
8- الزهد
عن الإمام علي عليه السلام: “اليقين يثمر الزهد“18.
9- التوكل
عن الإمام علي عليه السلام: “التوكل من قوة اليقين”19.
10- الرضا
عن الإمام علي عليه السلام: “بالرضا بقضاء اللَّه يستدل على حسن اليقين“20.
11- تهوين المصائب
من وصايا أمير المؤمنين لابنه الإمام الحسن عليه السلام: “اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين“21.
12- الهداية
عن الإمام علي عليه السلام:هُدى من ادرع لباس الصبر واليقين“22.
ما يساعد على تحصيل اليقين
1- عدم تعطيل العقل:
… إنماؤه بالتفكُّر والاعتبار والعلم، يقول الإمام علي عليه السلام: “الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد… واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين،…“23.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: “اليقين على أربع شعب: على غاية الفهم، وغمرة العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم، فمن فهم فسَّر جُمل العلم، ومن فسَّر جُمل العلم عرف شرائع الحكم…“24.
2- انكار المنكر (الجهاد)
عن الإمام علي عليه السلام: “… ومن أنكره (المنكر) بالسيف لتكون كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، ذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريقة ونوّر في قلبه اليقين“25.
3- صلاح النفس
عن الإمام الكاظم عليه السلام: “تعاهدوا عباد اللَّه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً، وتربحوا نفيساً ثميناً”26.
موانع اليقين
1- غلبة الهوى والشهوات:
عن علي عليه السلام: “يفسد اليقين الشك وغلبة الهوى“27.
2- الحرص
عن علي عليه السلام: “من كثر حرصه قلّ يقينه“28.
وعنه عليه السلام: “الحرص يفسد الإيقان“29.
3- الصحبة الفاسدة
عن علي عليه السلام: “خلطة أبناء الدنيا تشين الدِّين وتضعف اليقين“30.
4- سيطرة التقليد والعادة
يقول اللَّه في كتابه الكريم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾(لقمان:21).
خاتمة
إنكم إذا رجعتم إلى أنفسكم، عرفتم جيداً، مدى خطورة الشك والظن على النفس الإنسانية، حتى في الأمور الدنيوية. الشك والظن صعبٌ على النفس، فكيف بالأمور المصيرية، التي تجيب على أسئلة، من أين، وإلى أين؟
إنكم إن لم تقوُّوا يقينكم وإيمانكم بالمبدأ والمعاد، ستكون حياتكم صعبة قلقة مضطربة، وآخرتكم أمرَّ وأدهى.
فكونوا كالنبي إبراهيم عليه السلام الذي طلب من اللَّه اطمئنان الروح، أو كالإمام علي عليه السلام الذي قال: “لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً”.
موعظة للعبرة
في بيان أن العلم يغاير الإيمان
يقول الإمام الخميني: “اعلم أن الإيمان غير العلم باللَّه ووحدانيته… والعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. وما أكثر من يكون له هذا العلم ولكنه ليس بمؤمن. فالشيطان عالم بجميع هذه المراتب بقدر علمنا وعلمكم، ولكنه كافر، بل إن الإيمان عمل قلبي، وما لم يكن ذلك فليس هناك إيمان، فعلى الشخص الذي علم بشيء عن طريق الدليل العقلي أو ضروريات الدين، أن يسلِّم لذلك قلبه أيضاً، وأن يؤدي العمل القلبي الذي هو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبّل والاستسلام عليه أن يؤدي ذلك لكي يصبح مؤمناً، وكمال الإيمان هو الإطمئنان، فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الإطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئاً لكن القلب لم يسلِّم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم تدركون بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته، ولكن ولأن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على أن تبيتوا ليلة مظلمة واحدة مع ميت!
وأما إذا سلَّم القلب أمره للعقل، وتقبَّل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل أي المبيت مع الميت أي إشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدّة مرّات من الإقدام، يصبح القلب مسلِّماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو خوف من الميت، إذاً أصبح معلوماً أن التسليم وهو من حظ القلب غير العلم وهو من حظ العقل.
من الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي، على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقّة، ولكن هذه العقائد لا تسمى إيماناً، ولا تجعل الإنسان مؤمناً…
فما لم تكتب عبارة “لا إله إلا اللَّه” بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمناً بوحدانية اللَّه.
وعندما ترد هذه العبارة النورانية الإلهية على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصاً آخر مؤثراً في مملكة الحق، ولا يتوقع من شخص آخر جاهاً ولا جلالاً، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين.
ولا يصبح القلب مرائياً ولا مخادعاً حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم تسلِّم للعقل، وأن الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تعدون شخصاً آخر إلهاً ومؤثراً في هذا العالم، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفار”31.
*أغنى الناس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، شوال 1424هـ ، ص41-52.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج7، ص176.
2- ميزان الحكمة، الري شهري، ج10، ص776، ح22635.
3- ميزان الحكمة، الري شهري، ج10، ص790، ح22725.
4- ن.م، ص785، ح22683.
5- الاداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني قدس سره، ص41 40، ط1986 2م، مؤسسة الأعلمي.
6- ميزان الحكمة، الري شهري، مج1، ص774، ح22612.
7- ن.م، ص774، ح22619.
8- ن.م، ص774، ح22622.
9- ن.م، ص775، ح22629.
10- ن.م، ص776،ح22631.
11- ن.م، ص773، ح22609.
12- ن.م، ص773، ح22606.
13- ن.م، ص773، ح22607.
14- ن.م، ص773، ح22608.
15- ن.م، ص773، ح22603.
16- ن.م، ص786، ح22691.
17- ن.م، ص787، ح22698.
18- ن.م، ص787، ح22702.
19- ن.م، ص787، ح22711.
20- ن.م، ص788، ح22713.
21- ن.م، ص788، ح22718.
22- ن.م، ص328، ح20841.
23- ن.م، ص789، ح22720.
24- ن.م، ص789، ح22722.
25- ن.م، ص329، ح20858.
26- ن.م، ص790، ح22724.
27- ن.م، ص784، ح22673.
28- ن.م، ص784، ح22674.
29- ن.م، ص784، ح22676.
30- ن.م، ص785، ح22681.
31- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، ص48 47.
عدد التعليقات 0