الإستبصار (موقع يهتم بشؤون المستبصرين ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم
المدخل
وردت مجموعة من الأحاديث الشريفة في ذكر عصر الظهور وما يجري فيه، وسيرة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ عند ظهوره وما يحققه الله تبارك وتعالى على يديه يومذاك.
وهذه الأحاديث مروية في الكتب المعتمدة عند مختلف الفرق الإسلامية، وفيها الأحاديث ذات الأسانيد الصحيحة، وحيث إن هذا المقتال لا يتسع لإيرادها وتحليلها ودراستها وتمحيصها، لذلك نكتفي بتلخيص أبرز مدلولاتها في عناوين موجزة دون ذكر نصوصها في أغلب الموارد محيلين القارئ الكريم الى مراجعة مصادرها إذا أراد التفصيل، مقدمين لذلك بذكر الآيات الكريمة المتحدثة عن خصوصيات عصر الظهور وما سيحققه الله تبارك وتعالى على يدي وليه المهدي المنتظر عجّل الله فرجه .
إنّ ما نستفيده من هذه النصوص التي تكلّمت عن عصر الظهور يعبّر عن خصائص الدولة المهدوية ـ كما يرسمه القرآن الكريم ـ وهي الدولة التي تمثّل المصداق الجليّ لأحد أهمّ الأهداف الإلهية من بعثة جميع الأنبياء((عليهم السلام)) .
خصائص الدولة المهدوية في القرآن الكريم
1 ـ اتمام النور الالهي وإظهار الإسلام على الدين كله:
وهذا ما صرّح به القرآن المجيد في ثلاث من سوره المباركة.
أ ـ قال تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدىودين الحــق ليظهره على الدين كلــه ولــو كــره المشركون)([1]).
ب ـ وقال تعالى (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)([2]).
ج ـ وقال عز وجل: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً)([3]).
وقد صرّح المفسرون من مختلف المذاهب الإسلامية بأنّ هذا الوعد الحتمي الوقوع إنما يتحقق في عصر المهدي الموعود حيث يظهر الإسلام على جميع الأديان فيعم المشارق والمغارب([4]). وتقام الدولة الإسلامية العالمية; لأن المقصود من الإظهار هو الغلبة والاستيلاء وليس مجرد قوّة الحجة; لأن غلبة الحجة أمر حاصل ابتداء ولا يبشر الله عز وجل إلاّ بأمر مستقبل غير حاصل([5]).
2 ـ استخلاف صالحي المؤمنين
أ ـ قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون)([6]).
ب ـ وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّنّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً ومَن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)([7]).
ج ـ وقال تعالى: (… الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)([8]).
تخبر الآية الكريمة الاُولى بأن من القضاء المحتوم تكريم خط الإيمان والصلاح بجزاء دنيوي ـ فضلاً عن الجزاء الاُخروي ـ يتمثل في وراثة الأرض وحكمها حيث العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة([9]).
وتنص الآية الثانية على أن الذين يستخلفهم الله في الأرض هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المسلمين، الذين كانوا يُستضعفون ولم يسمح لهم بعبادة الله بأمن، وعن التمكين لهؤلاء دينهم الذي ارتضاه تبارك وتعالى لهم: والآيتان تتحدثان عن عصر ظهور المهدي كما هو واضح من التدبر فيهما([10]).
3 ـ إقامة المجتمع التوحيدي الخالص
واستناداً لما تقدم يتضح أن من خصائص عصر المهدي الموعود ـ عجل الله فرجه ـ هو أن تكون مقاليد المجتمع البشري برمته بيد الصالحين الذين كانوا يُستضعفون في الأرض والذين يمثلون الإسلام المحمدي الأصيل، فإذا مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أي أقاموا المجتمع التوحيدي الخالص الذي يعبد الله وحده لا شريك له بأمن دونما خوف من كيد منافق أو كافر، ووفروا بذلك جميع الظروف اللازمة لتحقق العبادة الحقّة لله والتكامل الانساني في ظلها، لذا فلا حجة بالمرّة لمن يكفر بعد ذلك (فأولئك هم الفاسقون) حقاً لانهم أعرضوا عن الصراط المستقيم مع توفر جميع الأوضاع المناسبة لسلوكه، وهذه خصوصية أخرى من خصوصيات عصر المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ، وهي تفسر ماروي من شدة تعامله مع المنحرفين.
4 ـ تحقق الغاية من خلق النوع الانساني
قال الله عزّ وجلّ: (وما خلقت الجن والانس إلاّ ليعبدون)([11]).
تدل الآية الكريمة على حصر الغاية من خلق الإنسان بالعبادة الحقّة لله جل وعلا([12])، وهذا ما يتحقق في ظل دولة المهدي الموعود على الصعيدين الفردي والاجتماعي بأكمل صوره كما أشرنا لذلك في الفقرة السابقة.
وقد عقد السيد الشهيد محمد الصدر((رحمه الله)) بحثاً عقائدياً تفسيرياً استند فيه لهذه الآية الكريمة لإثبات حتمية ظهور دولة المهدي الموعود ـ عجل الله فرجه([13]). لأن تحقق هذه الغاية أمر حتمي إذ إنّ من المحال تخلف مخلوق عن الغاية من خلقه، والآية تتحدث عن النوع الانساني وتحقق العبادة الحقة فيه على الصعيدين الفردي والاجتماعي العام في المجتمع الانساني، وهذا لم يتحقق في تأريخ الانسان على الأرض مُنذ نزوله إليها ، لذا لابد من القول بحتمية تحققه في المستقبل في دولة إلهية تقيم المجتمع التوحيدي الصالح العابد لله وحده لا شريك له، وهذه الدولة هي الدولة المهدوية كما أشارت لذلك الآيات الكريمة المتقدمة وصرحت به الكثير من الأحاديث الشريفة المروية من طرق الفريقين.
5 ـ انهاء الردة عن الدين الحق
قال عز من قائل: ( يا أيها الذين آمنوا مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)([14]).
لقد عقد العلامة الطباطبائي((رحمه الله)) بحثاً تفسيرياً قرآنياً وروائياً للاستدلال على أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن عصر الظهور المهدوي وأن الردة المقصودة فيها هي عن الدين الحق مع البقاء على الظاهر الإسلامي وذلك بموالاة اليهود والنصارى وإتباعهم في طريقة الحياة في مختلف شؤونها كما هو حاصل اليوم. وهذه الردّة هي التي تنهى عنها الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة التي تتحدث عن الانحراف الذي يصيب العالم الإسلامي قبل الفتح المهدوي([15]).
وبناءً على ذلك فإنّ من خصائص عصر الدولة المهدوية إنهاء الردة عن الدين الحق والتبعية لليهود والنصارى في طريقة الحياة، ثم إعادة المسلمين الى الطريقة الإسلامية في الحياة بمختلف شؤونها، وهذا ينسجم تماماً مع الخصوصيات الأخرى للعصر المهدوي الذي تحدثت عنه الآيات السابقة.
خصائص ومميزات ظهوره
1 ـ تاريخ ظهور الإمام المهدي(ع)
ذكرت الأحاديث الشريفة أنه((عليه السلام)) يظهر في وتر من السنين الهجرية([16])أي من الأعوام الفردية، ويكون ظهوره في يوم الجمعة([17])، فيما ذكرت أحاديث أخرى أن خروجه يكون يوم السبت العاشر من محرم الحرام([18])، ولعل الجمع بين التأريخين هو أن ظهوره يكون يوم الجمعة وفيها يخطب خطبته في المسجد الحرام فيما يكون خروجه منها باتجاه الكوفة يوم السبت.
مكان ظهوره ـ وانطلاقة ثورته
ذكرت مجموعة من الأحاديث الشريفة أن بداية ظهوره يكون في المدينة المنورة وإعلان حركته يكون في مكة المكرمة([19]) وفي المسجد الحرام حيث يُعلن حركته ويدعو إليها في خطبة موجزة ذات دلالات مهمة وهي مروية عن الإمام الباقر((عليه السلام)) ضمن حديث طويل عن ظهور سليله المهدي.
يقول((عليه السلام))في جانب من الحديث:
ثم ينتهي الى المقام فيصلّي عنده ركعتين ثم ينشد الله والناس حقه. فيقول:
يا أيها الناس إنّا نستنصر الله على من ظلمنا وسلب حقنا، من يحاجنا في الله فانا أولى بالله، ومن يحاجنا في آدم فأنا أولى الناس بآدم، ومن حاجنا في نوح فأنا أولى الناس بنوح، ومن حاجنا في إبراهيم فإنا أولى الناس بإبراهيم، ومن حاجنا بمحمد فإنا أولى الناس بمحمّد ((صلى الله عليه وآله))، ومن حاجنا في النبيين فأنا أولى الناس بالنبيين، ومن حاجنا في كتاب الله فنحن أولى الناس بكتاب الله، أنا أشهد وكل مسلم اليوم إنّا قد ظُلمنا وطُردنا وبُغي علينا واخرجنا من ديارنا وأموالنا وأهالينا وقهرنا، الا أنا نستنصر الله اليوم كل مسلم»([20]).
وورد في رواية ينقلها نعيم بن حماد وهو من مشائخ البخاري بسنده عن الإمام الباقر((عليه السلام)) أيضاً، خطبة ثانية في المكان نفسه ولكن بعد أداء فريضة العشاء، فيروي عن الإمام الباقر((عليه السلام)) قوله: «… فإذا صلّى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: اُذكركم الله أيّها الناس، ومقامكم بين يدي ربّكم، فقد اتخذ الحجة وبعث الأنبياء وأنزل الكتاب، وأمركم أن لا تشركوا به شيئاً وأن تحافظوا على طاعته وطاعة رسوله، وأن تُحيوا ما أحيى القرآن، وتُميتوا ما أمات، وتكونوا أعواناً على الهدى، وَوَزراً على التقوى، فإنّ الدنيا قد دنا فناؤها وزوالها، وآذنت بالوداع، فإني أدعوكم الى الله، والى رسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنته…»([21]).
3 – وقفة عند خطبتي إعلان الثورة
ويُلاحظ في الخطبة الأولى تأكيده((عليه السلام)) على مخاطبة أتباع جميع الديانات السماوية انطلاقاً من عالمية ثورته الدينية فهو يمثل خط الانبياء((عليهم السلام)) جميعاً ويدعو الى الأهداف السامية التي نادوا بها جميعاً. هذا أولاً وثانياً يؤكد((عليه السلام)) على تمثيله لمدرسة الثقلين فهو ممثل أهل البيت((عليهم السلام)) ثاني الثقلين الذي لا يفترق عن الأول ـ أعني القرآن المجيد ـ لذلك فهم أولى الناس بكتاب الله جل ذكره وأعرفهم بما فيه وبسبل هداية البشرية على نور هداه السماوي.
ثم يشير ثالثاً الى مظلومية أهل البيت((عليهم السلام)) وتعريضهم لأشكال الظلم والبغي بما أدى الى غيبة خاتمهم ـ عجل الله فرجه ـ وسبب تعريضهم لكل ذلك هو نزعات الطواغيت وعباد السلطة للاستئثار واتخاذ مال الناس دولاً وعباد الله خولاً ومنع أهل البيت((عليهم السلام)) من إقرار العدالة الإلهية وقيادة الناس على المحجة البيضاء.
ثم يستنصر كل مسلم لدفع هذه المظلومية التي يكون في دفعها الخير للبشرية جمعاء لأنّ تسليم مقاليد الأمور الى ممثل نهج الأنبياء وعدل القرآن الكريم يعني تحقيق أهداف العدالة الإلهية، ولكن ـ عجل الله فرجه ـ يستنصر الله جل قدرته أولاً وفي ذلك إشارة الى حتمية انتصار ثورته الإصلاحية فهو المضطر الذي تستجاب دعوته وولي دم المقتول ظلماً فهو منصور إلهياً، وبهذه الإشارة يحفز((عليه السلام)) الناس لنصرته ليفوزوا بسعادة الدارين ويتقوا عذاب الدنيا وخزيها على يديه وعذاب الآخرة أكبر.
4 ـ إعلان أهداف الثورة
أما في الخطبة الثانية التي يلقيها ـ عجل الله فرجه ـ بعد صلاة العشاء، فهو يحدد الأهداف العامة لثورته، وهي الأهداف التي يستنصر الناس لأجلها، والتي تمثل الوجه الآخر للثأر لمظلومية أهل البيت ومدرستهم ومنهجهم((عليهم السلام))، فهو يحدد الهدف الأول والعام المتمثل باقامة التوحيد الخالص الذي بُعث لأجله الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ واُنزلت معهم الكتب السماوية، وهو الهدف الذي يتجسد من خلال طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله((صلى الله عليه وآله)) ومن خلال إحياء ما أحيا القرآن، وإحياء سنة رسول الله((صلى الله عليه وآله))، وإماتة ما أماته القرآن وهو الباطل والبدع والشرك وسائر العبوديات الزائفة. فدعوته هي دعوة الى الله عزوجل وتوحيده ودعوة الى رسول الله((صلى الله عليه وآله))والعمل بسنته الموصلة الى الله.
وعليه يتضح أن استنصاره للثأر لمظلومية أهل بيت النبوة تعني الدعوة الى المعونة على الهدف والمؤازرة على التقوى.
5 – الاستجابة لاستنصاره ومبايعته
وأول مَن يبادر لبيعته((عليه السلام)) في المكان الذي يستنصر فيه المسلمين أي مابين الركن والمقام هم صفوة أنصاره: «فيُبايع ما بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف، عدّة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر والأبدال من أهل الشام والأخيار من أهل العراق»([22]).
ويُستفاد من مجموعة من الأحاديث المروية في المصادر العامة أن ظهوره ومبايعته يكون بعد اختلاف بين قبائل الحجاز وأنه يرفض في البداية قبول البيعة ويخاطب المبايعين بالقول: «ويحكم! كم عهد قد نقضتموه؟ وكم دم قد سفكتموه؟»([23]).
ويبدو أن هذا الرفض يمثل محاولة لإشعار المبايعين بمسؤولية وتبعات البيعة والمهمة التي هم مقبلون عليها نظير ما فعله جدّه الإمام علي بن أبي طالب((عليهما السلام)) عند إقبال الناس على بيعته بعد مقتل عثمان.
ويُستفاد من بعض الأحاديث أن حركة الموطئة للظهور المهدوي تبعث بالبيعة للمهدي((عليه السلام)). وهو في مكة([24]) ثم تجددها بعد ذلك.
وتصرح بعض الأحاديث الشريفة أن أصحابه الخاصين أي الثلاثمائة والثلاثة عشر يجمعون في مكة وبصورة إعجازية أو سريعة بوسائل النقل المتطورة ليدركوا ظهور الإمام ويبايعوه([25]).
6 ـ خروجه الى الكوفة وتصفية الجبهة الداخلية
يخرج((عليه السلام)) بجيشه متوجهاً الى الكوفة التي يتخذها منطلقاً لتحركه العسكري([26]) بعد إنهاء فتنة السفياني والخسف الذي يقع بجيشه في البيداء([27]).
وينشر راية رسول الله((صلى الله عليه وآله)) المذخورة عنده في نجف الكوفة([28]).
وتنصره الملائكة التي نصرت جده رسول الله((صلى الله عليه وآله)) في معركة بدر([29]).
وتذكر الأحاديث الشريفة أنه يواجه وأصحابه وجيشه صعوبات شديدة وتعباً في بداية تحركه العسكري([30]) وحروبه التي تستمر ثمانية أشهر لتصفية الجبهة الداخلية فيما تستمر ملاحمه عشرين عاماً([31]).
ويُلاحظ هنا أن المسير الذي يختاره((عليه السلام)) هو المسير الذي اختاره جده الإمام الحسين ((عليه السلام)) في نهضته الإستشهادية من مكة الى الكوفة، التي مُنع جده سيد الشهداء عن الوصول اليها فيصل سليله المهدي((عليه السلام)) إليها ويحقق الأهداف الإصلاحية في الاُمة المحمدية التي سعى لها جدّه سيد الشهداء ((عليه السلام)).
وعندما يدخل الكوفة يجد فيها ثلاث رايات تضطرب([32]) فيوحدها وينهي اضطرابها بنشره للراية المحمدية المذخورة وينهي جيوب النفاق المتبقية فيها في معركته مع الفرقة التي تصفها الأحاديث الشريفة بالبترية([33]).
7 – دخوله بيت المقدس ونزول عيسى((عليه السلام))
تنص الكثير من الروايات على دخوله((عليه السلام)) بيت المقدس بجيشه ضمن إطار حادثة مهمة للغاية، هي نزول نبي الله عيسى بن مريم المسيح((عليه السلام)) الذي بشرت بعودته نصوص الانجيل إضافة الى الأحاديث الشريفة المرويّة في الكتب الروائية الموثّقة عند الفريقين([24]).
وتذكر الأحاديث الشريفة قصة صلاة عيسى صلاة الفجر خلف الإمام المهدي((عليه السلام)) بعد أن يرفض عرض الإمام بأن يتقدم عيسى لإمامة الصلاة معللاً الرفض بأن هذه الصلاة اُقيمت لأجل الإمام المهدي فيقدّمه ويصلّي خلفه إشارة الى خاتمية الرسالة المحمدية، وفي ذلك نصرة مهمة للثورة المهدوية حيث توجّهها للعالم الغربي الذي يدين معظمه بالمسيحية.
ويظهر أن دخول المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يكون بعد تحرير القدس من الإفساد اليهودي وإنهاء حاكميتهم عليها. لذا قد يكون من الممكن القول بأن دخول الإمام بيت المقدس يكون بعد تصفيته الجبهة الداخلية ومقدمة لمواجهة الأعداء خارج العالم الإسلامي أو الروم حسب تعبير الروايات وفتح كل الأرض. من هنا نفهم سر توقيت نزول عيسى المسيح مع دخول المهدى((عليه السلام)) بيت المقدس.
8ـ قتل الدجال وإنهاء حاكمية الحضارات المادية
إنّ معظم الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن نزول عيسى((عليه السلام)) تذكر قيامه بكسر الصليب ورجوع النصارى عن تأليهه([25]) ثم قتل الدجال ـ الذي هو رمز الحضارات المادية ـ على يديه أو على يدي الامام المهدي بمعونته((عليهما السلام)).
ومع رجوع النصارى عن تأليه عيسى((عليه السلام)) ومشاهدتهم لمناصرة نبيهم لخاتم أئمة الإسلام المعصومين تتفتح أبواب دخولهم الإسلام ـ وهم النسبة الأكبر من سكان الأرض ـ بيسر، ونتيجة لذلك تتيسر مهمة قتل الدجال والقضاء على الحضارات الطاغوتية وفتح الأرض وإقامة الدولة الإسلامية العالمية العادلة وبدء عملية البناء الإصلاحي وتحقيق أهداف الأنبياء((عليهم السلام)).
هذه ـ على نحو الإيجاز ـ المحطات الرئيسة لتحرك الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ بعد ظهوره، وكل منها يشتمل على تفصيلات كثيرة لا يسع المجال لذكرها. لذا ننتقل للحديث ـ وبالإيجاز نفسه ـ عن سيرته بعد ظهوره في أبرز مجالاتها ثم عن خصائص عهده.
ملامح سيرة الإمام المهدي (ع) بعد الظهور
1 ـ سيرته سيرة جدّه رسول الله((صلى الله عليه وآله))
تنص الأحاديث الشريفة على أنه((عليه السلام)) يسير بسيرة جده((صلى الله عليه وآله)) الذي قال: «بُعثت بين جاهليتين لاُخراهما شر من أولاهما»([26])، وبيّن لاُمته الكثير من مظاهر الجاهلية الثانية الأشد شراً، فالمهدي: «يصنع كما صنع رسول الله((صلى الله عليه وآله))، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله((صلى الله عليه وآله)) ما كان قبله ويستأنف الإسلام جديداً»([27]) وقد تحدث النبي((صلى الله عليه وآله)) عن غربة الإسلام بعده ونقل عنه المسلمون ذلك([28]).
فالمهدي يهدم الجاهلية الثانية كما هدم جده((صلى الله عليه وآله)) الجاهلية الأولى، ويستأنف الإسلام الذي عاد غريباً كما بدأ غريباً.
ولكن ثمة فروقاً بين السيرتين تفرضهما بعض الخصوصيات الزمانية لكل منها. وهذه الخصوصيات الزمانية هي التي تفسّر الفروق في سيرتيهما((عليهما السلام)) كما سنلاحظ بعضها في سياساته العسكرية والقضائية والإدارية والدينية وغيرها. ولهذا فلا يضر ذلك بحقيقة أنه يسير بسيرة جده المطصفى(ص).
2 ـ إحياء السنة وآثار النبي((صلى الله عليه وآله))
تقوم الحركة الإصلاحية الكبرى للإمام المهدي(ع) على أساس إحياء السنة المحمدية وإقامتها التي يكون بها قوام كل القيم الإسلامية فهو كما قال رسول الله ((صلى الله عليه وآله)): «رجل من عترتي يُقاتل على سنتي كما قاتلت أنا على الوحي»([29]) وهو «يقفو أثري لا يُخطئ»([30]) وهو «رجل منّي اسمه كاسمي يحفظني الله فيه ويعمل بسنتي»([31])، فهو «يبين آثار النبي»([32])، ويدعو الناس الى سنة رسول الله((صلى الله عليه وآله)). فهو مجددها كما أنه مجدد الإسلام ويظهر ماخفي واُخفي منها. وقد سمي «المهدي» لأنه يهدي الناس الى «أمر قد دُثر وضل عنه الجمهور»([33]).
3 ـ شدته مع نفسه ورأفته باُمته
إن سيرة الإمام المهدي((عليه السلام)) مع نفسه واُمته تجسد صورة الحاكم الإسلامي المثالي الذي تكون السلطة عنده وسيلة لخدمة الناس وهدايتهم لا مصدراً للدخل الوفير والظلم والاستئثار بالأموال واستعباد الناس، فهو يحيي صورة الحاكم الإسلامي التي جسدها من قبل ـ وبأسمى صورها ـ أبواه، ومن قبل رسول الله ووصيه الإمام علي ـ صلوات الله عليهما وآلهما ـ فهو مع نفسه: «مالباسه إلاّ الغليظ وما طعامه إلاّ الشعير الجشب»([34]) وهو الذي «يكون من الله على حذر، لا يضع حجراً على حجر، ولا يقرع أحداً في ولايته بسوط إلاّ في حد»([35])، أما مع اُمته فهو «الرؤوف الرحيم» بهم وهو الموصوف بأنه «المهدي كأنما يعلق المساكين الزُّبد»([36])، وهو الصدر الرحب الذي تجد فيه الأمة ملاذها المنقذ فهو الذي: «تأوي إليه اُمته كما تأوي النحلة الى يعسوبها»([37]) أو «كما تأوي النحل الى بيوتها»([38]).
4 – سيرته القضائية
والمهدي الموعود ـ عجل الله فرجه ـ هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً كما تواترت بذلك الأحاديث النبوية، وإنجاز هذه المهمة يحتاج الى سيرة قضائية صارمة، لذلك فهو يجسد سيرة جده الإمام علي((عليه السلام)) الشديدة في تتبع حقوق الناس المغصوبة وأخذها من الغاصب حتى لو كانت مخبأة تحت ضرس وحتى لو تزوج بها الحرائر، و: «يبلغ من ردّ المهدي المظالم، حتى لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتى يرده»([39]). فيبلغ من عدله أن «تتمنى الأحياء الأموات»([40]) أي يتمنون عودة الأموات لينعموا ببركات عدله.
وتذكر مجموعة من الأحاديث الشريفة أنه((عليه السلام)) يحكم بحكم سليمان وداود في قضائه; أي بالعلم «اللدني» دون الاحتجاج بالبينة([41])، ولعل ذلك انطلاقاً من مهمته في اقرار العدل الحقيقي دون الظاهري الذي قد تقرّه البينة الظاهرية وإن كان خلاف العدل الحقيقي، وهذه حقيقة معروفة وقد شهدها التأريخ الإسلامي والانساني ويشهد التأريخ المعاصر الكثير من مصاديقها حيث يُؤدي الالتزام بالبينات الظاهرية الى غياب العدل الحقيقي وإن أقرت العدل الظاهري. وعلى أي حال. فهذه من خصوصيات عهده((عليه السلام)) وهي تنسجم مع طبيعة الأوضاع العامة لهذا العهد.
5 ـ سيرته تجاه الأديان والمذاهب
يزيل الإمام المهدي الموعود ـ عجل الله فرجه ـ مظاهر الشرك كافة ويروج التوحيد الخالص: «ولا يبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله إلاّ عُبد الله فيها ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون»([42]).
ويقوم((عليه السلام)) بعرض الإيمان على الجميع وينهي الحالة المذهبية فيوحد المذاهب الإسلامية ويصلح الله به أمر الأمة ويرفع اختلافها ويؤلّف قلوبها([43]) على أساس السنة النبوية النقية وما اُخفي أو ضيّع من قيم الإسلام الأصيلة.
فهو كما قال جدّه ((صلى الله عليه وآله)): «سنته سنتي يقيم الناس على ملتي وشريعتي»([44]).
ويُستفاد من بعض الروايات أنه((عليه السلام)) يقوم بإخراج التوارة والإنجيل الصحيحين غير المحرّفين من غار بأنطاكية ويحاجج اليهود والنصارى بهما ويستخرج حُلي بيت المقدس ومائدة سليمان ويردها الى بيت المقدس([45]).
ويدعمه في موقفه هذا عيسى((عليه السلام)) الذي «يحتج به على نصارى الروم والصين»([46]) حيث يرفض وفود اليهود والنصارى بعد نزوله عندما يأتونه مدعين أنهم أصحابه فيردهم ويصرّح بأنّ أصحابه هم المسلمون فينضم الى مجمع المهدي((عليه السلام))([47 الأمر الذي يؤدي الى رجوع النصارى عن تأليهه كما يقوم بأداء فريضة الحجّ الى البيت الحرام([48 ويُدفن الى جنب رسول الله((صلى الله عليه وآله))([49]).
وتذكر بعض الروايات أن المهدي((عليه السلام)) يخرج التوراة الأصلية من جبال بالشام ويحاجج اليهود بها فيسلم منهم جماعة كثيرة([50]) ثم يستخرج تابوت السكينة من بحيرة طبرية ويُوضع بين يديه في بيت المقدس فيسلم اليهود ولا يبقى على العناد إلاّ القليل منهم([51]).
________________________________________
([1]) التوبة (9): 32 و 33 .
([2]) الصف (61): 8 و 9 .
([3]) الفتح (48): 28 .
([4]) تفسير القرطبي: 8/ 12، التفسير الكبير: 16/ 40، والروايات من طرق أهل البيت((عليهم السلام)) كثيرة مصرّحة بأختصاص تحقق هذا الوعد بعهد المهدي الموعود.
([5]) التفسير الكبير: 16/ 40.
([6]) الأنبياء: 21 / 105.
([7]) النور (24): 55 .
([8]) الحج (22): 41 .
([9]) تفسير الميزان: 14 / 329 ـ 331.
([10]) ناقش العلامة الطباطبائي((رحمه الله)) في تفسيره الميزان الأقوال الأخرى التي أوردها المفسرون وأثبت عدم انسجامها مع دلالات الآية التي لا يمكن تفسيرها بغير الدولة المهدوية راجع تفسير الميزان: 15/ 151 ـ 157 .
([11]) سورة الذاريات (51): 56 .
([12]) تفسير الميزان: 18 / 386 ـ 389.
([13]) تأريخ الغيبة الكبرى: 233 ومابعدها.
([14]) المائدة (5): 54 .
([15]) تفسير الميزان: 5 / 366 ـ 400، وراجع تفسير الشيخ اسعد بيوض التميمي للآيات نفسها في كتابه زوال اسرائيل حتمية قرآنية; 120 ـ 124.
([16]) الإرشاد للشيخ المفيد: 2/379 وعنه في الفصول المهمة: 302 إثبات الهداة: 3 / 514 .
([17]) إثبات الهداة: 3 / 496.
([18]) تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: 4/ 300 وكذلك 333، اقبال الأعمال للسيد ابن طاووس: 558، كمال الدين: 653، غيبة الطوسي: 274، عقد الدرر للمقدسي الشافعي: 65، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان للمتقي الهندي: 145.
([19]) برهان المتقي الهندي: 144.
([20]) تفسير العياشي: 1 / 65 ، اختصاص الشيخ المفيد: 256.
([21]) الملاحم والفتن لنعيم بن حماد: 95، عقد الدرر 145، برهان المتقي الهندي: 141، الحاوي للفتاوي الحديثية: 2/ 71، وكتاب اللوائح للسفاريني: 2/ 11.
([22]) غيبة الطوسي: 284، وعنه في بحار الأنوار: 52 / 334، واثبات الهداة: 3/517، 518 .
([23]) مستدرك الحاكم: 4 / 503، القول المختصر لابن حجر: 18، برهان المتقي الهندي: 143، عقد الدرر: 109، معجم أحاديث الإمام المهدي((عليه السلام)): 1/449.
([24]) فتن ابن حماد: 83 ـ 84، الحاوي للفتاوي: 2 / 67، البرهان: 118.
([25]) غيبة النعماني: 315 ، اثبات الهداة: 3 / 453.
([26]) بحار الأنوار: 52 / 308، إثبات الهداة: 3 / 583، 527، 493.
([27]) تفسير الطبري، 22 : 72، تذكرة القرطبي: 2 / 693، سنن الدارمي: 104 مسند أحمد: 6 / 290، صحيح مسلم: 4 / 2208، سنن أبي داود: 4 / 108، سنن ابن ماجة: 2/ 1351، سنن الترمذي: 4/407، تأريخ البخاري: 5 / 118، سنن النسائي: 5 / 207. وأحاديث الخسف بجيش السفياني كثيرة مروية في الصحاح وغيرها ومن طرق أهل البيت((عليهم السلام)) أيضاً.
([28]) تفسير العياشي: 1 / 103، غيبة النعماني: 308، كمال الدين: 672.
([29]) تفسير العياشي: 1 / 197، إثبات الهداة: 3 / 549.
([30]) غيبة النعماني: 297.
([31]) إثبات الهداة: 3 / 469 بالنسبة للمدة الأولى، وتقول رواية لابن حماد: 127 أن ملاحمه تستمر عشرين سنة.
([32]) الارشاد: 362، غيبة الطوسي: 280.
([33]) دلائل الإمامة: 241، غيبة الطوسي: 283.
([34]) صحيح البخاري: 4 / 305، مسلم: 1 / 136، تأريخ البخاري: 7 / 233، سنن ابن ماجة: 2/ 1357، سنن الترمذي: 4/ 512، صحيح البخاري: 3 / 107، فتن ابن حماد: 103 وغيرها كثير مروية من طرق الفريقين.
([35]) الدر المنثور للسيوطي: 2 / 350.
([36]) أمالي الشجري: 2 / 77.
([37]) غيبة النعماني: 232، عقد الدرر للمقدسي الشافعي: 227، تهذيب الأحكام: 6/ 154.
([38]) مسند أحمد: 1 / 184، صحيح مسلم: 1 / 130، سنن ابن ماجة: 2/ 1319 الترمذي: 5:18.
([39]) فتن ابن حماد: 102، القول المختصر لابن حجر: 7، برهان المتقي: 95.
([40]) القول المختصر: 10، الفتوحات المكية لابن عربي: 3/ 332.
([41]) إثبات الهداة: 3/ 498.
([42]) إثبات الهداة: 3/ 454.
([43]) سنن الدارمي: 101، فتن ابن حماد: 98، عقد الدرر: 40، اثبات الهداة: 3/ 527.
([44]) راجع الكافي: 1 / 411، إثبات الهداة: 3 / 515.
([45]) ملاحم ابن طاووس: 132.
([46]) فتن ابن حماد: 98، عقد الدرر: 227.
([47]) ابن حماد: 99، الحاوي للسيوطي: 2 / 77.
([48]) برهان المتقي الهندي: 78.
([49]) ابن حماد: 98، الحاوي: 2 / 83، القول المختصر: 25، عقد الدرر: 36.
([50]) ابن حماد: 99، القول المختصر : 5.
([51]) الكافي: 1 / 397، إثبات الهداة: 3/ 447.
عدد التعليقات 0