لا يخفى على دارسٍ جهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خدمة القرآن الكريم جمعاً وحفظاً وتفسيراً وتوضيحاً لدى الآخرين، الأمر الذي خلف إرثاً غنياً في مجال خدمة القرآن الكريم، وقد اتصفت هذه الخدمة بإحاطة الإمام (عليه السلام) التامة بظروف النص وبيئات نزوله؛ لأنه كان قريباً من رسول الله (صلى الله عليه واله) فقد روي عنه أنه قال:” كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا ورسول الله حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار والتبليغ“([1])، وكذلك قوله (عليه السلام):” أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله ، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير“([2])
وهذا الأمر يعني معرفته التامة بحيثيات النص القرآني وفهمه لها، وتميزه من سواه في تلك الإحاطة فهو ربيب النبي الاكرم وعلى أكتافه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) قامت أعمدت الرسالة الإسلامية، فكانت من أبرز خصوصيات الإمام أمير المؤمنين في فهم النص القرآني التي مثلت جهداً متميزاً من جهوده في خدمة القرآن، هي الإحاطة التامة بظروف نزول النص القرآني وبيئاته، ولم تقتصر هذه الإحاطة على التفسير فقط، بل تعدت ذلك لتشمل ما له علاقة بالتفسير، كإحاطته بالأحداث والوقائع التي اقترن بها نزول النص القرآني وهو ما يسمى “بأسباب النزول” أو العادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي خصوصاً في مكة والمدينة، أو الأوضاع السياسية والأخلاقية التي كان يعيشها المسلمون أنفسهم.
إذْ من الواضح أنَّ القرآن الكريم راعى الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية والعادات والتقاليد التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، ولم يأتِ مجرداً عن كل هذه الظروف.
وبطبيعة الحال فإنَّ هذه الظروف تلقي بظلالها على فهم القرآن الكريم ومقاصده، لذا فأنَّ فهمها ومعرفتها له أثر كبير في فهم القرآن وتفسيره، وهذا ما يؤكده أهل البيت(عليهم السلام) في بعض الروايات من خلال بيان معرفتهم بزمان نزول الآيات ومن نزلت فيه، وهذا التأكيد منهم لا يراد منه مجرد بيان سعة علمهم بالأحداث، وإنما لبيان ارتباط ذلك بفهم القرآن وتفسيره، لذا كان أئمة أهل البيت يوجهون الانتقاد إلى أولئك الذين يفسرون القرآن الكريم دون هذه الإحاطة.
فليس من شك أنَّ من تعرض لتفسير القرآن دون هذه الإحاطة كان تفسيره منقوصاً لأنَّه فاقد لأبرز معايير التعامل مع النص القرآني، فالقرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض.
ومن المؤكد أنَّ هذه الإحاطة قدْ نشأت وتبلورت نتيجة العلاقة الراسخة بين الإمام (عليه السلام) والقرآن الكريم، فهي وليدة ذلك الارتباط الموضوعي بين العدلين الكتاب والعترة، إذْ أنَّه رافق نزول القرآن الكريم على النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) في كل مراحله، ابتداءً من النداء السماوي الأول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ﴾، واستمرت تلك المرافقة في كل المواقف والأحداث والمواقع، التي نزل فيها وعلى ضوئها القرآن الكريم إلى درجة عبر عنها الإمام (عليه السلام) بقوله:” أنا القرآن الناطق “، فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، قال: “إنَّ الله طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن والقرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا“. وهذا بطبيعة حاله يؤكد حتمية ارتباط هذه الشخصية بكتاب الله العزيز، ورفدها بالعانية واللطف الإلهي، الأمر الذي ولد لدى الإمام (عليه السلام) هذه الإحاطة التامة بالقرآن الكريم.
فقد رافق(عليه السلام) القرآن الكريم في كل مراحل نزوله ، حتى صار شاهداً على صدق الدعوة، قال أبو سعيد الخدري: سألت رسول الله عن قول الله (جل ثناؤه): ﴿وقَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، قال: ذلك وصي أخي سليمان بن داود فقلت: له يا رسول الله فقول الله تعالى: ﴿كفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ قال: ذلك علي بن أبي طالب ([3])“وأكَّد هذا المعنى الإمام جعفر بن محمد الصادق قال: “إيّانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي، ووضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب كله”.
إذن فكل هذا يؤكد امتلاك الإمام أمير المؤمنين شخصية علمية متفردة، كونه أعلم صحابة النبي، فقد سُئل بن عباس أين علمك من علم ابن عمك فقال: “عليّ عُلِّم علماً علمه رسول اللّه ورسول اللّه علمه اللّه، فعلم النّبيّ علم اللّه وعلم عليّ من علم النّبيّ، وما علمي وعلم أصحاب محمّد في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر” .
وهناك كثير من الأحاديث والروايات التي تشير إلى سعة علمه بالكتاب العزيز، فهو “ رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم“.
من هذا المنطلق فقد أخذَ الإمام على عاتقه خدمة القرآن الكريم، إذْ بذل جهداً في حفظه، وجمعه، ونَشْر ما جاء فيه من أحكام ومفاهيم، واتخذه دستوراً له في جميع أعماله ونشاطاته، حتى صار (عليه السلام) هو القرآن الناطق الذي يجب إتباعه والتمسك به، لأنه ضمانة من الضلال، والانحراف.
فمن لم يتمسك به لم يتمسك بالقرآن، ومن لم يعترف بولايته لم يعترف بالقرآن، انطلاقاً من قول رسول الله(عليه السلام): “إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً… هم حبل الله المتين وصراطه المستقيم“.
اعداد جعفر رمضان
عدد التعليقات 0